لا يسع الناظرَ إلى واقع المسلمين في غزة العزة، اليوم، إلا أن يعتبر ما تعرضت له من ظلم شنيع واعتداء مريع من أكبر الجرائم الإنسانية وأفظعها في العصر الحديث، خاصة في العدوان الأخير الذي ناهز السنتين استكبارا في الأرض واستعلاء على الناس، فلا يمكن وصفه إلا بأنه مظلومية كبرى وجريمة إنسانية شاملة، في حق البشر والحجر والشجر ذهبت بكل ادعاءات العالم المتحضر اللاهث خلال قرنين ونيف بحقوق الإنسان وكرامة الإنسان وحرية الإنسان.
كما لا يسع المتأمل لهذا السكوت المطبق لحكام العالَم وعلمائه إزاء ما ينقل على مسمع ومرآى البشرية جمعاء إلا أن يستنكر هذا الصمت المروع، وهذا السكوت الشيطاني الأخرس خاصة من قبل العلماء وأهل الوعي من حكماء العالم عامة، وأهل العلم من المسلمين خاصة، إذ هم المطوقون بأمانة تسديد التبليغ، والوقوف في وجه هذا الظلم المكشوف، والجور المفضوح الذي تمارسه آلة القتل والتدمير والتجويع والتهجير القسري الذي يتعرض له شعب ذنبه الوحيد التشبث بدينه ووطنه ومقدساته بثبات منقطع النظير وإصرار لا مثيل له في هذا العصر. لسان حالهم يقول للظالم المتغطرس (علَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ () وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( يونس85 ـ 86)
وعليه، فإن مساءلة العلماء على مسؤوليتهم في هذا الوضع المزري أضحت ضرورية وملحة بالنظر للأمانة التي طوقهم الله بها.
فما هي مسؤولية العلماء عامة إزاء ما يقع من فظائع يندى لها جبين الإنسانية ممن أنكر ذلك بفطرته الكارهة للظلم أصلا؟
وما هي مسؤولية العلماء المسلمين المأمورين بالبيان الفصيح، والبلاغ المبين في إسناد من لا نصير له سوى الله عز وجل؟
لا يخفى على كل ذي لب أن العلماء في الإسلام هم ورثة الأنبياء، وأمناء الرسل وحماة الحق والعدل. وأن من أبرز مهامهم نصرة المظلومين والوقوف في وجه الظالمين، من منطلق مسؤولية شرعية لا يسع التنكّر لها بحال من الأحوال ولا تسقط بالتقادم على الإطلاق.
ولقدشهد تاريخ المسلمين مواقف مشرّفة لعلماء ناصروا المظلومين ووقفوا بجرأة وشجاعة في وجه الاستبداد والمستبدين، يشكل لهم اليوم منابع استلهام القيام بواجب النصرة من سيرهم العطرة.
فهذا الإمام مالك رحمه الله تعالى (ت 179ه) يرفض الظلم قطعا ويتحمل في سبيل ذلك الشدائد وما فتواه في عدم شرعية الإكراه على الطلاق عنا ببعيدة. وهذا الإمام أحمد بن حنبل ت241ه وثباته في فتنة القول بخلق القرآن عنا بمجهولة، وفي القرن السابع أفتى العز بن عبد السلام بعدم شرعية التحالف مع الصليبيين وأمر ببيع الأمراء لتسليح المجاهدين، وفي القرن الثامن سعى ابن تيمية رحمه الله تعالى لفك أسرى المسلمين من التتار، وعدّ ذلك من أعظم الواجبات، وهناك أمثلة كثيرة مشرقة في تاريخنا مليئة بالدروس والعبر.
هذا، وإن شرف نصرة المظلوم في هذا الزمان الذي تعاظم فيه تجبر الظالمين خاصة من قبل الكيان الغاصب المستعلي إزاء الشعب الأعزل الثابت على الحق، لمن أعظم القربات وأجلها، فما تنفع المحاضرات الجامعية ولا الحلقات العلمية ولا النصوص المحفوظة إن لم تكن أداة لإحقاق الحق والدلالة عليه، وإنصاف المظلوم والذود عنه، وعن عرضه وماله ونفسه ودينه ووطنه ومقدساته، ويا خيبة من غض الطرف عن ذلك، وتعامى عن الحقائق التي تنقل في الوسائط السمعية البصرية صباح مساء.
عجبت لمن علم قول النبي صلى الله عليه وسلم: “ما من امرئ مسلم يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه حرمته، إلا نصره الله في موضع يحب فيه نصرته” ثم نكص على عقبيه.
وتعجبت أكثر لمن علم قوله عليه الصلاة والسلام: “من مشى مع مظلوم حتى يثبت له حقه، ثبت الله قدمه على الصراط يوم تزل الأقدام”.
فيا علماءنا الأجلاء، ما دام في العمر بقية فتلك فرصة لتدارك ما فات من تقصير، وما دام لدينا مُسكة من عقل فتلك مدرجة للرشد والسداد، وما دام في اللسان قدرة على الكلام فتلك فرصة لقول كلمة الحق وتعطيره به اقتداء بسيد قائليها وإمام وارثيها، وما دام في الأذن سماع للحق فإن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر: “ثلاثٌ لا تُرَدُّ دعوتُهُم الصَّائمُ حتَّى يُفطرَ، والإمامُ العادلُ، ودعْوةُ المظلومِ تُحمَلُ علَى الغَمامِ وتُفتَحُ لها أبوابُ السَّماءِ، وإنه تباركَ وتعالى يقول للمظلوم المستضعف: “وعزَّتي وجلالي لأنصرَنَّكَ ولَو بعدَ حينٍ”.
عبد الصمد الرضى فجر الأربعاء 06 غشت 2025 م الموافق ل 12 صفر الخير 1447ه راجيا دعوة صادقة من قلوب بالنصر موقنة.