يقول رسول الله عليه الصلاة والسلام: “لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ..” 1 واللأواء: الشدة وضيق المعيشة.
أقف اليوم على هذا الحديث، وغيره من الأحاديث الشبيهة، مستشعرة قوتها كأنني لم أقرأها من قبل، ربما غاب عني وقعها بما هي إخبار من الحبيب عليه الصلاة والسلام، قد تحدث وقائعها في عصر غير عصري، ومع قوم غير قومي، فغاب عني ثقل ما تحمله في طياتها من وحي، صدقت تجلياته في راهن أيامنا العصيبة.
أحاديث في مجملها تحبس الأنفاس عند معاينة ترجمتها واقعا وحقيقة بين أشلاء الموتى، وبين تجويع وقتل وحرق إخوة لنا في الدين والعقيدة ولا نملك دفع ما يؤذيهم ولا حتى إعانتهم على هول ما هم عليه، ونحن لسنا بقلة، إنما نحن كثرة لكننا غثاء، وكأني بتلك المشاهد تجسد ما أخبرتنا به الأحاديث، تحاكي النصوص بشكل مأساوي يصعب استيعابه، وما أدراك ما حديث الوهن 2! حديث يحمل من الحمولة الكثير من الشجن والألم والخوف على حال أمة تفككت أوصالها واخترق جسمها مرض الركون والإذعان لأعداء الله والدين، نستشعر وقع كل ذلك ونحن نعيش تكالب الأمم على غزة المجاهدة، ومعهم أبناء جلدتنا ممن تصهين وهنا وجبنا.
فعلا لم أدرك فحوى الحديث ووقعه إلا وأنا أعيش بين قوم يتفرجون على مشاهد مفجعة موجعة ولا ينطقون، يشاهدون ألم جسدهم 3 ولا يتألمون، يسمعون أنينه ولا يتحركون، وفي أيديهم دواء الإغاثة ولا يغيثون.
للأسف! تفككت أوصال ذاك الجسد الذي تحدث عنه سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، وأنهكه المرض وأصبح أشلاء مبعثرة ضعيفة مغلوبة على أمرها منقادة لغيرها.
صدقت سيدي يا رسول الله، أصبحنا غثاء كغثاء السيل، انتزع الله من صدور عدونا المهابة منا، وقذف في قلوبنا الوهن؛ حب الدنيا وكراهية الموت!
نعم أصبح المسلم يكره الموت في سبيل الله، إنها الكراهية التي استعصى فهمها على العقول، وهل يحب أحد الموت؟!
لكنه موت الصادقين، موت القلة المؤمنة، موت القاهرين لعدوهم، موت المرابطين على الثغور لا يضرهم من خالفهم.
الآن فقهت معنى الخوف منه، وحق لمن فاز به في زمن الغثائية وقد توج بتاج الجهاد والعزة لله القاهر لعدو النفس قبل العدو الإنسان المتجبر أن يرفع رأسه عزيزا عاليا.
إنهم فتية هذا الزمن؛ يحملون نعوشهم على أكتافهم لينعم غيرهم بالحياة الطيبة والحرية المنشودة، إنهم فتية عاشوا في كنف القرآن فباعوا أنفسهم لتعيش أمتهم، إنهم فتية الطوفان الذي أحيا بشرارة الإيمان واليقين في نصر الله أمة برمتها، وجدد في شعوبها الأمل والعزم على السير قدما في طريق التحرير والنصر، إنهم فتية آمنوا بربهم وفهموا معنى وجودهم وواجب سيرهم وسلوكهم إلى خالقهم، فوعوا واجب التكليف بإصلاح الأرض وإعمارها وفق ما شرعه الله تعالى فلم يرضوا بالقعود، بل تحركت إرادتهم نحو فعل التغيير، الذي لا يتحقق إلا بالإرادة القوية والتشمير على سواعد الجد لاقتحام العقبات، فأعطوا بصدقهم دروسا تستحق أن تدرس في مدرسة الرجال الأفذاذ، الذين تزهر بأمثالهم الحياة.
إنهم فتية علمونا كيف تحارَب الغثائية انطلافا من محاربة مرض حب الدنيا وكراهية الموت في النفوس.
إنهم فتية الطوفان وأشاوسه، استرخصوا الغالي والثمين دفاعا عن دينهم ووطنهم ومقدساتهم، قدموا المال والأهل والولد ليحموا حِمى الله، وفداء لتحيا أمة رسول الله.
إنهم فتية علموا الأمة أن سلعة الله غالية تستحق أن تبذل من أجلها الأرواح وتسترخص فيها كل الأثمان..
[2] عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت” رواه أحمد وأبو داود واللفظ له، وقال الهيثمي في المجمع إسناد أحمد جيد.
[3] عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” [أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، (4/ 1999)، رقم: (2586)].