حار قلمي في الكتابة عن هذه السيدة، قرأت عنها في كتاب “البداية والنهاية” لابن كثير. تميزت بالجرأة والشجاعة والصدق في قولها وعملها وحالها، فمن تكون يا ترى هذه السيدة الفاضلة؟ وأين يتجلى تفردها؟ وما الذي ساهم في تكوين هذه الشخصية وخلق منها سيدة كاملة كمال العقل والقلب؟
إنها سيدتنا نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي رضي الله عنها، فهي من البيت الشريف الطاهر، وما أدراك ما هذا البيت، مرت عليه عواصف وفتن على عهد ما بعد خلافة علي كرم الله وجهه.
حجت سيدتنا نفيسة ثلاثين حجة، وكانت تحفظ القرآن الكريم بتفسيره، ولما سكنت مصر هرع إليها أهل مصر يشكون من ظلم أحمد بن طولون، فقالت: متى يركب؟ قالوا: في غد. فكتبت رقعة ووقفت بها في الطريق وقالت: يا أحمد بن طولون. فلما رآها عرفها، فترجل عن فرسه وأخذ عنها الرقعة وقرأها فإذا فيها: ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وخولتم فعسفتم، وردت إليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام القدر نافذة غير مخطئة لا سيما في قلوب أوجعتموها، وأكباد جوعتموها، وأجساد عريتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم. اعملوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا مستجيرون، واظلموا فإنا إلى الله متظلمون. وَسَيَعْلَمُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ. فلما سمع بن طولون استجاب وعدل عن موقفه.
غريبة قصة هذه السيدة الفاضلة:
التجاء الناس إلى امرأة، في زمان معروف فيه أن الرجال هم من يتحملون مثل هذه المسؤوليات.
أخذت على عاتقها هذه المسؤولية في قولها “متى يركب؟”، فهي تريد مقابلة الحاكم ونصحه.
عند مناداته عرفها، فهي إذن مألوفة عنده وعند الناس، معروفة بجرأتها وصدقها في القول والعمل والحال.
انظر إلى طريقة نصح الظالم، فلسانها مستو على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها.
استجاب أحمد بن طولون لنصحها، وبالتالي جعل الله هدايته على يدها.
فما الذي ساهم في تكوين هذه الشخصية وخلق منها سيدة كاملة كمال العقل والقلب؟
لا شك أن البيت الشريف الذي ترعرعت فيه كان له الحيز الكبير في تكوين شخصيتها. فبيتها يختلف عن باقي البيوت. فجد أبيها هو النبي عليه السلام، معلم البشرية. كانت من أهل الله وخاصته، حافظة لكتاب الله وتفسيره، متدبرة لأوامر الله ونواهيه، ومن كان القرآن في قلبه كان الله وليه ولا يخاف في الله لومة لائم.
حجت ثلاثين حجة، ولاشك أن الحج يجعل الإنسان دائم التوبة إلى الله، متعلقا ببيته الكريم، يحرص على رضا الله في كل وقت وحين.
كانت صوامة قوامة، فقد توفيت وهي صائمة، ألزموها الفطر فقالت: واعجباه، إنني أسأل الله منذ ثلاثين سنة أن ألقاه صائمة وأفطر الآن هذا لا يكون.
وخرجت من الدنيا وقد انتهت قراءتها إلى قوله تعالى: قُل لِّمَن مَّا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ قُل لِّلَّهِ ۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ ۚ (الأنعام الآية 12).
رحم الله سيدتنا نفيسة وأسكنها الجنات مع الصادقين والصادقات في أعلى عليين، وجعلنا لها من المقتدين، آمين.