نموذج وقدوة للشباب

Cover Image for نموذج وقدوة للشباب
نشر بتاريخ

كتب الله في سنته الماضية في خلقه أن يكون التعلم والتشرب والاهتداء بالقدوة الحسنة أحسن ما يكون، هذا ما حثنا عليه القرآن الكريم لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا(21) وأكد الحبيب المصطفى على ضرورة اتخاذ خليل ليصلُح الدين كله بقوله: “المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل” حتى أصبحت الصحبة أسا لازما في السلوك إلى الله عند أهل الله، وفي صلاح الحال عموما في الأنظمة التربوية الناجحة.

كما أن الأبحاث العلمية سايرت هذا الوحي المبارك فيما يحث عليه فقد تم اكتشاف نوع جديد من الخلايا العصبية عند قرود المكاك في أوائل التسعينيات من قبل جياكومو ريزولاتي وفريقه في جامعة بارما. سموا هذه الخلايا العصبية بالمرآة لأنها تظهر النشاط عندما يقوم الفرد بعمل ما وعندما يلاحظ فردًا آخر (خاصة من نوعه) يقوم بنفس الفعل، أو حتى عندما يتخيل مثل هذا الفعل، ومن هنا جاء مصطلح المرآة تماما مثل الاقتداء بالرؤية المباشرة أو عن طريق المعرفة ثم الخيال.

فائدة تربوية ثالثة يجمع عليها أهل السلوك إلى الله، ألا وهي قراءة سير الصالحين، والتي من شأنها أن توقظ الوسنان للقيام بتغيير ما بالنفس حتى يغير الله ما به من تردد عن اقتحام عقبة الغفلة عن الله والقعود عن الجهاد الواجب في سبيل الله، يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله “الصدق في القلب بينك وبين الله تعالى، لا يستطيع عبد أن يعالج مرضك وخللك من جانب الصدق. لا يقترب من ذلك إلا تصفحك لنفسك صباح مساء، ومقارنة تخاذلك باجتهاد غيرك أحياء وأمواتا، وبكاؤك على ربك الكريم أن يمسح غبار الغفلة وعفن الاستغناء بمكاسبك من الطاعات مهما كانت، واستعانتك بإخوتك في مجالس النصيحة، تسمع وتشارك، وتحضر وتواسي بنية المحتاج لا بالتصدر للرئاسة.”

مفاد هذا الاطلاع على سير ذوي الهمم العالية هو توجيه أصبع الاتهام إلى النفس وقولنا لها “فاتك الرجال يا خسيسة” وأنعم بهذه النتيجة فهي منطلق النهوض من سبات القعود بتوفيق الله، جاء في صحيح البخاري “كُنَّا بصِفِّينَ، فَقَامَ سَهْلُ بنُ حُنَيْفٍ، فَقالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ، فإنَّا كُنَّا مع رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَ الحُدَيْبِيَةِ، ولو نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا، فَجَاءَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَلَسْنَا علَى الحَقِّ وهُمْ علَى البَاطِلِ؟ فَقالَ: بَلَى. فَقالَ: أَليسَ قَتْلَانَا في الجَنَّةِ وقَتْلَاهُمْ في النَّارِ؟ قالَ: بَلَى، قالَ: فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِينِنَا، أَنَرْجِعُ ولَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بيْنَنَا وبيْنَهُمْ؟ فَقالَ: يا ابْنَ الخَطَّابِ، إنِّي رَسولُ اللَّهِ، ولَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا، فَانْطَلَقَ عُمَرُ إلى أَبِي بَكْرٍ فَقالَ له مِثْلَ ما قالَ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: إنَّه رَسولُ اللَّهِ، ولَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الفَتْحِ فَقَرَأَهَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى عُمَرَ إلى آخِرِهَا، فَقالَ عُمَرُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَوَفَتْحٌ هُوَ؟ قالَ: نَعَمْ”.

سيرة الشاب عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز ابن شابه أباه في زهده وعفته وورعه، وكان خير ناصح لوالده في كثير من المواقف، وكما كان عبد الملك قدوة لأبناء جيله من الشباب فهو أيضا قدوة لكل شاب يريد أن ينشأ في عبادة ربه ليكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

قال عنه الحافظ أبو نعيم في الحلية: “كان للحق نافذا وللباطل واقذا”

وقال ميمون بن مهران: ما رأيت ثلاثة في بيت أخير من عمر بن عبد العزيز وابنه عبد الملك ومولاه مزاحم.

لم تذكر لنا كتب التاريخ والتراجم مولده ونشأته بقدر ما ذكرت مواقف من حياته في الزهد والعفة والنصيحة فإلى بعضها من خلال هذه السطور.

نصيحته لعمر

 لم يستغل عبد الملك منصب أبيه ومكانة أسرته؛ ليعيش حياة كلها ترف وتنعم دون إحساس بأية مسئولية تجاه ما يحدث حوله من أحداث، بل على العكس من ذلك عرف عبد الملك زهدا أكثر من زهد أبيه، وكان نعم الناصح لأبيه، خوفا عليه من عظم المسئولية الملقاة على عاتقه.

 روي عن عبد الله بن يونس الثقفي عن سيار أبي الحكم قال: قال ابن لعمر بن عبد العزيز يقال له عبد الملك ـ وكان يفضل على عمر ـ يا أبت أقم الحق ولو ساعة من نهار.

وعن يحيى بن يعلى المحاربي عن بعض مشيخة أهل الشام قال كنا نرى أن عمر بن عبد العزيز إنما أدخله في العبادة ما رأى من ابنه عبد الملك.

وروي عن ميمون بن مهران أن عبد الملك بن عمر قال له يا أبت ما منعك أن تمضي لما تريد من العدل والله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك، قال يا بني إنما أنا أروض الناس رياضة الصعب إني لأريد أن أحيي الأمر من العدل فأؤخر ذلك حتى أخرج معه طمعا من طمع الدنيا فينفروا من هذه ويسكنوا لهذه.

وعن خالد ابن يزيد عن جعونة قال: دخل عبد الملك على أبيه عمر فقال يا أمير المؤمنين ماذا تقول لربك إذا أتيته وقد تركت حقا لم تحييه وباطلا لم تمته. قال اقعد يا بني إن آباءك وأجدادك خدعوا الناس عن الحق فانتهت الأمور إلي وقد أقبل شرها وأدبر خيرها ولكن أليس حسبي جميلا أن لا تطلع الشمس علي في يوم إلا أحييت فيه حقا وأمت فيه باطلا حتى يأتيني الموت وأنا على ذلك.

وعن إسماعيل بن أبي حكيم وكان كاتب عمر بن عبد العزيز قال دخل عبد الملك على أبيه عمر فقال أين وقع لك رأيك فيما ذكر لك مزاحم من رد المظالم. قال: على إنفاذه فرفع عمر يديه ثم قال الحمد لله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على أمر ديني.

مواقف من حياته

عن هشام بن حسان، قال: قال عمر بن عبد العزيز لمولاه مزاحم: كم ترانا أصبنا من أموال المؤمنين؟ قال: قلت يا أمير المؤمنين أتدري ما عيالك؟ قال: نعم، الله لهم، فخرجت من عنده فلقيت ابنه عبد الملك، فقلت له: هل تدري ما قال أمير المؤمنين؟ قال: وما قال؟ قلت: قال: هل تدري ما أصبنا من أموال المؤمنين؟ قال: فما قلت له: قال: قلت له: هل تدري ما عيالك؟ قال: نعم، الله لهم، قال عبد الملك: بئس الوزير أنت يا مزاحم، ثم جاء يستأذن على أبيه، فقال للآذن: استأذن لي عليه، فقال له الآذن: إنما لأبيك من الليل والنهار هذه الساعة، قال: لا بد من لقائه، فسمع عمر مقالتهما، قال: من هذا؟ قال الآذن: عبد الملك، قال: ائذن له، قال: فدخل، فقال: ما جاء بك هذه الساعة؟ قال: شيء ذكره لي مزاحم، قال: نعم فما رأيك؟ قال: رأيى أن تمضيه، قال: فإني أروح إلى الصلاة فأصعد المنبر فأرده على رءوس الناس، قال: ومن لك أن تعيش إلى الصلاة؟ قال: الساعة، قال: فخرج فنودي في الناس الصلاة جامعة، فصعد المنبر فرده على رؤوس الناس.

وعن إسماعيل بن أبي حكيم قال كنا عند عمر بن عبد العزيز فلما تفرقنا نادى مناديه الصلاة جامعة، قال فجئت المسجد فإذا عمر على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن هؤلاء أعطونا عطايا ما كان ينبغي لنا أن نأخذها وما كان ينبغي لهم أن يعطونها، وإني قد رأيت ذلك ليس علي فيه دون الله محاسب وإني قد بدأت بنفسي وأهل بيتي أقرأ يا مزاحم. فجعل مزاحم يقرأ كتابا كتابا ثم يأخذه عمر فيقطعه حتى نودي بالظهر.

وعن ميمون ابن مهران قال بعث إلي عمر بن عبد العزيز وإلي مكحول وإلى أبي قلابة فقال ما ترون في هذه الأموال التي أخذت من الناس ظلما، فقال مكحول يومئذ قولا ضعيفا كرهه. فقال أرى أن تستأنف فنظر إلي عمر كالمستغيث بي قلت يا أمير المؤمنين ابعث إلى عبد الملك فأحضره فإنه ليس بدون من رأيت قال يا حارث ادع لي عبد الملك. فلما دخل عليه عبد الملك قال يا عبد الملك: ما ترى في هذه الأموال التي قد أخذت من الناس ظلما قد حضروا يطلبونها وقد عرفنا مواضعها قال أرى أن تردها فإن لم تفعل كنت شريكا لمن أخذها.

وقال إسماعيل بن أبي حكيم قال غضب عمر بن عبد العزيز يوما فاشتد غضبه، وكان فيه حدة وعبد الملك بن عمر بن عبد العزيز حاضر. فلما سكن غضبه قال يا أمير المؤمنين أنت في قدر نعمة الله عليك وموضعك الذي وضعك الله به وما ولاك من أمر عباده يبلغ بك الغضب ما أرى، قال كيف قلت؟ قال فأعاد عليه كلامه. فقال: أما تغضب يا عبد الملك فقال ما تغني سعة جوفي إن لم أردد فيها الغضب حتى لا يظهر منه شيء أكرهه قال وكان له بطين.

عن ابن أبي عبلة قال جلس عمر يوما للناس فلما انتصف النهار ضجر وكل ومل فقال للناس مكانكم حتى أنصرف إليكم فدخل ليستريح ساعة. فجاء ابنه عبد الملك فسأل عنه فقالوا دخل. فاستأذن عليه فأذن له، فلما دخل قال: يا أمير المؤمنين ما أدخلك؟ قال أردت أن أستريح ساعة. قال أو أمنت الموت أن يأتيك ورعيتك على بابك ينتظرونك وأنت محتجب عنهم؟ فقام عمر من ساعته وخرج إلى الناس.

وفاته

توفي عبد الملك وهو في ريعان الشباب وحزن عليه عمر حزنا شديدا، وروى أبو نعيم أن  عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز أصابه الطاعون في خلافة أبيه فمات قال والله ما من أحد أعز علي من عمر ولأن أكون سمعت بموته أحب إلي من أن أكون كما رأيته.

وقد رزقه الله بصيرة نافذة حتى أنه شعر بدنو أجله، فلما  جاءت امرأته إليه وقد ترجلت ولبست إزارا ورداءا ونعلين فلما رآها قال اعتدي اعتدي. 

وروي عن زياد بن أبي حسان أنه شهد عمر بن عبد العزيز حيث دفن ابنه عبد الملك، قال لما دفنه وسوى عليه قبره بالأرض ووضعوا عنده خشبيتين من زيتون إحداهما عند رأسه والأخرى عند رجليه، ثم جعل قبره بينه وبين القبلة واستوى قائما وأحاط به الناس فقال: رحمك الله يا بني، لقد كنت بارا بأبيك، والله ما زلت منذ وهبك الله لي مسرورا بك ولا والله ما كنت قط أشد بك مسرورا ولا أرجي بحظي من الله فيك منذ  وضعتك في هذا المنزل الذي صيرك الله إليه، فرحمك الله وغفر لك ذنبك وجزاك بأحسن عملك ورحم الله كل شافع يشفع لك بخير من شاهد أو غائب. رضينا بقضاء الله وسلمنا لأمر الله والحمد لله رب العالمين ثم انصرف.

وقال علي ابن حصين: شهدت عمر تتابعت عليه مصائب مات أخ له ثم مات مزاحم ثم مات عبد الملك، فلما مات عبد الملك تكلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال لقد دفعته إلى النساء في الخرق فما زلت أرى فيه السرور وقرة العين إلى يومي هذا، فما رأيته في أمر قط أقر لعيني من أمر رأيته فيه اليوم.

وروي أن عمر كتب في رثاء عبد الملك إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن في شأن ابنه عبد الملك حين توفي، أما بعد فإن الله تبارك اسمه وتعالى ذكره كتب على خلقه حين خلقهم الموت وجعل مصيرهم إليه، فقال فيما أنزل من كتابه الصادق الذي حفظه بعلمه وأشهد ملائكته على حقه أنه يرث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون، ثم قال لنبيه عليه السلام وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون ثم قال منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى فالموت سبيل الناس في الدنيا لم يكتب الله لمحسن ولا لمسيء فيها خلدا ولم يرض ما أعجب أهلها ثوابا لأهل طاعته ولم يرض ببلائها نقمة لأهل معصيته فكل شيء منها أعجب أهلها أو كرهوا منه شيئا متروك.

لذلك خلقت حين خلقت وسكنت منذ سكنت ليبلو الله فيها عباده أيهم أحسن عملا، فمن قدم عند خروجه من الدنيا إلى أهل طاعته ورضوانه من أنبيائه وأئمة الهدى الذين أمر الله نبيه أن يقتدي بهداهم خالد في دار المقامة من فضله لا يمسه فيها نصب ولا يمسه فيها لغوب، ومن كانت مفارقته الدنيا إلى غيرهم وغير منازلهم فقد قابل الشر الطويل وأقام على مالا قبل له به، أسأل الله برحمته أن يبقينا ما أبقانا في الدنيا مطيعين لأمره متبعين لكتابه، وجعلنا إذا خرجنا من الدنيا إلى نبينا ومن أمرنا أن نقتدي بهداه من المصطفين الأخيار وأسأله برحمته أن يقينا أعمال السوء في الدنيا والسيئات يوم القيامة.

ثم إن عبد الملك ابن أمير المؤمنين، كان عبدا من عباد الله أحسن الله إليه في نفسه وأحسن إلى أبيه فيه، أعاشه الله ما أحب أن يعيشه ثم قبضه إليه حين أحب أن يقبضه وهو فيما علمت بالموت مغتبط يرجو فيه من الله رجاء حسنا، فأعوذ بالله أن تكون لي محبة في شيء من الأمور تخالف محبة الله، فإن خلاف ذلك لا يصلح في بلائه عندي وإحسانه إلي ونعمته علي، وقد قلت فيما كان من سبيله والحمد لله ما رجوت به ثواب الله وموعده الصادق من المغفرة إنا لله وإنا اليه راجعون.

ثم لم أجد والحمد لله بعده في نفسي إلا خيرا من رضى بقضاء الله واحتساب لما كان من المصيبة، فحمدا لله على ما مضى وعلى ما بقي وعلى كل حال من أمر الدنيا والآخرة، أحببت أن أكتب إليك بذلك وأعلمك من قضاء الله، فلا أعلم ما نيح عليه في شيء من قبلك، ولا اجتمع على ذلك أحد من الناس، ولا رخصت فيه لقريب من الناس ولا لبعيد، واكفني ذلك بكفاية الله ولا ألومك فيه إن شاء الله. والسلام عليك.