هجرة القلوب والأبدان

Cover Image for هجرة القلوب والأبدان
نشر بتاريخ

يحل العام الهجري الجديد، فنتذكر جميعا هجرة الرسول صلى الله وعليه وسلم وأصحابه مكة بعدما ذاقوا شتى أنواع العذاب من الكفار. نهبت أموالهم وعذبت أجسامهم فخيروا بين دنياهم ودينهم فاختاروا فراق الأهل والعشيرة، ورحلوا إلى مكان يستطيعون فيه عبادة الله دون خوف أو قمع. وكان هذا المكان هو المدينة المنورة أرض الأوس والخزرج الذين فتحوا قلوبهم وبيوتهم، واستقبلوا الرسول صلى الله عليه وسلم والمهاجرين بترحاب وحب خفف لوعة فراق مكة، وأبانوا عن شهامة وأخلاق عالية.

ترى ما الذي جعل القرشي العربي المتجذر في أرضه مكان نشأته وأهله يضحي بسربه وماله ويسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو مستقبل مجهول وهو راض مسرور؟

كيف استطاع الأنصاري أن يترك متاعه وماله لأخيه المهاجر وهو لم يسبق له رؤيته ؟

أين غابت اليوم تلك القيم النبيلة التي كانت مصدر وحدة عشائر وقبائل شتى وكيف حلت محلها خلافات وأحقاد ساهمت في شتات الأمة الإسلامية ؟

الصحبة المحمدية مصدر كل خير

لقد تلقى الصحابة رضي الله عنهم من المربي الأول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تربية جعلت أفئدتهم تهاجر من الكفر إلى الإيمان، ومن العصبية القبلية إلى الأخوة الإنسانية، ومن الأحقاد والضغائن إلى المحبة والأخوة في الله، فتركوا الإسلام الفردي الذي يجر المسلمين إلى الضعف والتقاعس أمام أعداء الدين، وأصبحت لديهم قوة إيمانية وخلقية دفعت بهم إلى هجرة آبائهم وأبنائهم وأزواجهم وعشيرتهم ومساكنهم وتجارتهم في سبيل نصرة دين الله.

وهكذا شملهم الله عز وجل بفضله وكافأهم عما تحملوه جراء إسلامهم، وأنزلهم المدينة التي أصبحت فيما بعد دار أمن وهناء لهم ووعدهم بحياة طيبة في الآخرة. حيث قال سبحانه وتعالى :والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون
1 إن هذه الهجرة من مكة إلى المدينة حدث عظيم اختير ليكون محطة نؤرخ بها أحداثنا، فهو انتقال من جمود إلى حركة، ومن قلة وشتات إلى جماعة انصهر فيها الأنصار والمهاجرة وكونوا مجتمعا تسوده المحبة والأخوة في الله اعتبر النواة الأولى لبناء الأمة الإسلامية. لقد كان هذا المجتمع حقيقة مجسدة عاشها الصحابة رضي الله عنهم وتناسوا خلالها حروبهم الدامية أيام الجاهلية وانجمعوا على عبادة الله وطاعته، انجماع كان لمصعب بن عمير يد فيه فقد اغترف هذا الصحابي الجليل من العين الجارية من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمل تعاليم الإسلام السمحة إلى أهل المدينة حيث علمهم أن الأخوة في الله بذل وعطاء وحب وإخاء وصبر وإيثار، وهيأهم لإيواء ونصرة إخوانهم في الإسلام فكان موقفهم عظيما أثبتوا فيه صدقهم مع الله عز وجل وتأييدهم للدعوة الإسلامية واستعدادهم للدفاع عن دين الله وحماية رسول الله صلى الله عليه وسلم.

عبرة لمن يعتبر

إن الهجرة النبوية ذكرى عزيزة وغالية تتكرر كل سنة لنتعلم من دروسها وعبرها فنهاجر رذائل وعيوبا أغضبت الله تعالى منا، ونحاسب أنفسنا مع كل نهاية سنة هجرية وحلول أخرى هل كنا من الذاكرين أم من الغافلين ؟ هل عرجنا من إسلام إلى إيمان فإحسان أم لا زلنا على عتبة أركان الإسلام ؟

فإن كان الجواب أننا لا نرى الهجرة النبوية إلا رحلة من مكان إلى مكان ولا نقف عند هذا الحساب فلنتراجع عن سطحيتنا ولنتمعن في دور كل بطل من أبطال الهجرة. لنتذكر أبا بكر الصديق رضي الله عنه وحسن صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسماء بنت أبي بكر الحامل وهمتها القوية، وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه وشجاعته، والمهاجرين وصبرهم ثم الأنصار وكرمهم. أناس أحبوا الله ورسوله فبرهنوا على حبهم بالقول وبالفعل.

إن مرور ألف وأربع مائة وستة وعشرين سنة على هذه الواقعة لا يدعو إلى نسيانها واعتبارها فترة انقضت، بل يجب أن تبقى خالدة في أذهاننا ومرجعا لكل المسلمين كي يتحابوا ويتآزروا وينتظموا لتكوين صف كأنه بنيان مرصوص، ويهاجروا من مجالس الغفلة إلى مجالس الخير، ومن الركود إلى الهمة العالية، ومن الجدال العقيم إلى التراحم، ومن الأنانية إلى الخلاص الجماعي كي يرجع عهد المدينة المنورة الذي كان انطلاقة الانتصارات الإسلامية.


[1] سورة النحل الآية 41