عرف الموقف الأمريكي تغيرات كثيرة منذ 7 أكتوبر، تأرجحت بين تبني بايدن وإدارته للرواية الإسرائيلية وأكاذيبها تبنيا مطلقا، ثم انتقل إلى التشكيك في بعض تفاصيلها فيما بعد، وصولا إلى اتهام حكومة بنيامين نتنياهو بقتل المدنيين، فهل تمر العلاقات الأمريكية الإسرائيلية بأزمة حقيقية فعلا؟ أم إن الأمر لا يعدو كونه خطة “خداع استراتيجي” تضخمها الماكينة الإعلامية، وتحاول أمريكا من خلالها تحقيق عدة أهداف:
1- أن تنهي حالة التماهي الكلي مع الموقف الإسرائيلي -غير الموحد- التي سقطت في فخها تحت هول صدمة “طوفان الأقصى”.
2- أن تخفف من حجم الضغط الإنساني والأخلاقي الهائل بسبب ضخامة الكلفة الإنسانية للحرب في صفوف المدنيين.
3- أن تتخلص من تبعات أي جرائم جديدة في رفح من المحتمل ارتكابها في ظل اجتياح كامل أو “عمليات محدودة”، يوفر لها الأمريكان الغطاء اللازم استخباراتيا وعسكريا رغم البروبغاندا الإعلامية.
4- أن تعيد ترتيب الأوراق في المنطقة وفي الداخل الإسرائيلي بإعادة التوازنات بين القوى السياسية والمؤسسات العسكرية والأمنية، والتيارات الدينية والاستيطانية، وتحكم قبضتها على القرار.
5- أن يصور القبول الإسرائيلي بأي تسوية سياسية على أنه تم تحت ضغط أمريكا والغرب وتهديداته، وليس هزيمة أمام المقاومة، وهذا من شأنه أن يطيل عمر الحكومة اليمينية الحالية وينقذ رؤوس الكابينيت من العقاب السياسي والقضائي.
ومع كل ذلك، فنحن أمام عدة مؤشرات واحتمالات توحي بوجود أزمة ما، لكن تحليل المؤشرات ومناقشة الاحتمالات ينبغي ألا يصرفنا عن ثوابت السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، التي لا تحيد في عمقها عن هدفين رئيسين استراتيجيين يحددان علاقة أمريكا التاريخية بمختلف إداراتها مع “إسرائيل” 1:
1- تحييد أي تهديد جدي لإسرائيل ولمصالح أمريكا في المنطقة، ويلخص الموقف قول وليام بيرنز “نحن لسنا ضد القضاء على حماس ولكن يمكننا تحقيق ذلك بوسائل أخرى”.
2- ضمان أمن وتفوق إسرائيل واستمرارها في المنطقة بأي كلفة.
فما هي أسباب هذه الأزمة؟ وما دواعي تغير الموقف الأمريكي والغربي؟ وهل كان للمستجدات التي فرضتها المقاومة ومحورها على الأرض بعد دخول إيران المباشر على الخط تأثير؟ وهل كان لتوسع دعم الشارع الغربي لغزة، خاصة موجة الاحتجاجات الطلابية الواسعة في الجامعات الأمريكية والغربية العريقة، دور في هذا التحول؟ وهل أسهم التحول والضغط العربي والإسلامي بعد إعادة تقييم الوضع وتحيين المعطيات في ذلك؟ أم هل اكتشف الغرب أن إسرائيل تخادعه وتقدم معلومات مضللة؟ وأخيرا هل وصل الأمريكان إلى أنه لا يمكن القضاء على حماس عسكريا ولا جدوى من الحرب؟
المؤشرات
من المعلوم أن العلاقات الأمريكية الإسرائيلية مرت بعدة أزمات كشفت تقارير استخباراتية ووثائق دبلوماسية عن تفاصيلها في عدة مناسبات 2، لكنها في الغالب كانت خلافات تكتيكية في تقدير المواقف، أو حول أسلوب وطرق معالجة بعض القضايا، وكان يتسرب بعضها إلى وسائل الإعلام وبعضها يظل بعيدا عن الأضواء، لكن شد الحبل بين بايدن ونتنياهو وحدة الحرب الكلامية بلغت مستويات غير مسبوقة، بعد تمرد تل أبيب على مبادرة وقف إطلاق النار المصرية/القطرية المضمونة أمريكيا، وعدم موافقة واشنطن على اجتياح رفح، بل والتهديد بوقف المساعدات العسكرية.
هذه الجملة من المستجدات تعبر عن وجود أزمة ثقة بين الإدارة في واشنطن والحكومة اليمينية الصهيونية، ويمكن رصدها عبر عدة مؤشرات دالة، لكل واحد ما يدعمه من تصريحات وإجراءات يمكن عدها:
– عدم استعمال حق الفيتو في مجلس الأمن، الذي رأى فيه نتنياهو تراجعا واضحا يضر بالمجهود الحربي.
– صدور قرار الإدانة من محكمة العدل الدولية، والذي يرى الإسرائيليون أن أمريكا لم تقم بالضغط الكافي لمنعه، لهذا بعد تسرب أنباء عن صدور مذكرات اعتقال هددها أعضاء من الكونغرس بشكل مباشر.
– فرض عقوبات على مستوطنين ووحدات من الجيش الصهيوني. كتيبة نيتسح يهودا، والذي اعتبره وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، قرارا خطيرا يتجاوز الخطوط الحمر.
– التهديد بصدور مذكرات اعتقال دولية في حق مسؤولين صهاينة.
– عدم الموافقة على أي عملية لاجتياح رفح، ومنع قتل المدنيين، يمكن الإشارة إلى طلب 57 عضوا في مجلس النوّاب الأمريكي من الحزب “الديمقراطي” الرئيس جو بايدن بقطع المساعدات عن “إسرائيل” لثنيها عن خطتها للهجوم واسع النطاق على مدينة رفح جنوب قطاع غزة.
– منع تهجير الفلسطينيين.
– فرض إدخال المساعدات الإنسانية بقرار أمريكي أحادي.
– التهديد بمنع المساعدات العسكرية والمالية لإسرائيل، وبفرض العقوبات الاقتصادية، والذي قال عنه وزير المالية بتسلائيل ساموتريتش: “إن فرض عقوبات أمريكية على الجيش الإسرائيلي جنون مطلق ومحاولة لفرض دولة فلسطينية علينا”.
– منع الرد على إيران وتوسيع العمليات العسكرية في المنطقة.
– إدارة المفاوضات بشكل مباشر مع حماس بوسطاء دوليين وتجاوز عناد الحكومة الإسرائيلية.
– تغليب المصالح الأمريكية في المنطقة على الحسابات الداخلية الانتخابية الإسرائيلية.
الاحتمالات
نحن أمام عدة احتمالات:
– عدم جدوى وفاعلية الحرب، وسوابق أمريكا في أفغانستان والعراق تؤكد هذا الخيار.
– تنامي موجة العداء لأمريكا وإسرائيل في استطلاعات الرأي، وتوسع الاحتجاجات في الشارع والجامعات.
– تضرر العلاقات الأمريكية العربية الإسلامية، والشروع في التوجه إلى معسكر الصين روسيا.
– داخليا: خروج اليمين المتطرف عن السيطرة – أزمة المحكمة الدستورية – حجم الفساد – ارتفاع تأثير الأصولية الدينية.
– الوصول إلى نتيجة أن الحرب في صالح الحكومة وليست في صالح إسرائيل شعبا وكيانا ومشروعا استعماريا، وارتفاع وتيرة الاحتجاجات والمعارضة السياسية والإعلامية لنتنياهو تؤكد ذلك.
– فقدان الثقة في حكومة نتنياهو في ظل حديث عن استهداف متعمد لرجال مخابرات بريطانيين وأمريكان كلفوا بجمع معلومات موثوقة من أرض المعركة تحت غطاء المطبخ المركزي الدولي التي كانت نقطة التحول الدراماتيكية.
– شعور الغرب بأنه تعرض لابتزاز مالي وإعلامي وسياسي وعسكري.
دون شك أن الدعم الأمريكي الغربي للصهاينة، هو دعم سخي وغير مشروط، وأن الرهان على هذا الكيان كقاعدة استراتيجية متقدمة في عمق العالم العربي والإسلامي هو رهان غربي حيوي وكامل، وكل هذا من الحقائق التي لا يمكن القفز عليها بسهولة، لكن يمكن العمل على المدى البعيد لاختراق هذا الارتباط وتفكيكه، وهذا يتطلب أن يستثمر هذا الواقع الجديد الذي فرضه طوفان الأقصى بشكل حكيم جدا، يبدأ من التسويق لمعاناة الشعب الفلسطيني والمآسي الإنسانية بشكل محترف ومهني وموحد ومنظم، والعمل على الفضح الإعلامي للجرائم الصهيونية والهمجية والملاحقة القضائية ومحاصرة مجرمي الحرب في المنظمات والمحاكم الدولية، واختراق المؤسسات الأكاديمية ودعم الأكاديميين الغربيين الأحرار أساتذة وطلابا، سيساهم في تشكل وعي جديد على مدى جيل أو جيلين، وستساهم حماقات الصهاينة في تسريع الوتيرة، فالصهاينة وصلوا مرحلة من العلو والطغيان والغرور لا يقيمون معها وزنا للحلفاء أو الأعداء، ويستخفون بالإعلام والمنظمات الحقوقية والهيئات الدولية والرأي العام وحتى بحلفائهم، وهذه بداية النهاية.