كلنا سمع ويسمع الحديث القدسي الذي استعاذت فيه الرحم بالرحمان من قاطعها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله خلَق الخلْقَ، حتى إذا فرغ من خلقِه قالتِ الرَّحِمُ: هذا مقامُ العائذ بك من القطيعة، قال: نعَم، أمَا تَرضَيْنَ أن أصِل مَن وصلَكِ، وأقطعَ مَن قطعَكِ؟ قالت: بلى يا ربِّ، قال: فهو لكِ) (1).
ولكن كم منا سمعه بقلبه ووعاه وفهمه. لنتخيل للحظة أن هذا الوعيد صادر من ملك من ملوك الأرض هل سيغمض للمتوعد به جفن بعد سماعه؟ فكيف يتجرأ قاطع الرحم (ولله المثل الأعلى) على أن يكون الله تعالى في عليائه مقاطعا له؟ كيف تحلو له الحياة فيضحك ويأكل ويشرب، وربنا، رب العزة يتوعده أنه مقاطع له بل يتوعده بالقطع الذي لا رجعة فيه، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله: أنا الرَّحمن، وهي الرَّحِم، شققتُ لها اسمًا من اسمي، مَن وصلها وصلتُه، ومن قطعها بتتُّه) (2).
ولعل من الأسباب التي تهون على المرء قطيعة الرحم هي:
1- تجاهله عظيم أجرها أو عدم معرفته لها أصلا: فهناك أحاديث كثيرة تبين عظم أجر واصل الرحم في الدنيا والآخرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: “من اتقى ربه و وصل رحمه نسئ له في عمره، وثرى ماله، وأحبه أهله” (3)، ومنها “مَن سرَّه أن يُبسَط له في رزقه، وأن يُنسأ له في أثرِه، فليَصِل رَحِمَه” (4).
ومن النماذج التي يجب أن نقتدي بها في هذا الباب سيدتنا أم المومنين زينب بنت جحش رضي الله عنها؛ كانت محبة لذوي رحمها، واصلة ومكرمة لهم، فكانت رضي الله عنها تدبغ وتخرز ثم تتصدَّق بثمن ذلك، روى البخاري أنها “كانت تعمل بيدها وتصدق” (5). وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها تثني عليها الثناء الحسن وتقول: “وَلَمْ أَرَ امْرَأَةً قَطُّ خَيْرًا في الدِّينِ مِن زَيْنَبَ، وَأَتْقَى لِلَّهِ وَأَصْدَقَ حَدِيثًا، وَأَوْصَلَ لِلرَّحِمِ، وَأَعْظَمَ صَدَقَةً، وَأَشَدَّ ابْتِذَالًا لِنَفْسِهَا في العَمَلِ الذي تَصَدَّقُ به، وَتَقَرَّبُ به إلى اللهِ تَعَالَى” (6).
2- الجهل بإثمها الكبير: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من ذنبٍ أجدرُ أن يعجِّلَ اللَّه لصاحبه العُقوبةَ في الدُّنيا، مع ما يدَّخر له في الآخرة، من قطيعةِ الرَّحم والبغي” (7).
ومن الأحاديث التي تقشعر لها الجلود قوله صلى الله عليه وسلم: “تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس، فيغفر الله عز وجل لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلا رجلا كان بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا” (8). فاعمل ما شئت من الأعمال الصالحة؛ أحي ليلك وأظمئ نهارك وأنفق مالك في الصدقة، لن يرفع لك عمل ولن تأجر عنه ما دمت مخاصما.
3- تضخيم المشكل: لا شك أن التعامل مع الناس ومخالطتهم يسبب بعض الأذى ويحدث نزاعات وخصومات لاختلاف الطباع وتنوع العادات.. ولكن لا بد منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم” (9)، ومهما بلغت هذه الأذية فإنها لا يجب أن تكون سببا للقطيعة، لأنها وإن عظمت في أعيننا لن تصل إلى ما عاشه الرسول صلى الله عليه وسلم وكابده مع قرابته، فلقد أذاقوه جميع أصناف الأذية من سب وهجو وضرب بالحجارة وإخراج من الوطن ومحاولة قتل.. ورغم ذلك كله لما أمكنه الله منهم قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
4- التأثر بالأمثال الشعبية: من أمثال “لي غطاك بخيط،غطيه بحيط”، “اهتم لمن يهتم والبقية غرباء”، “لي بغانا نبغوه ونديروه على روسنا عمامة، ولي كرهنا نكروه حتى غدا يوم القيامة”.. ومن الأجدر والأليق بنا أن نعي قول المصطفى ونحييه فينا ونصل أرحامنا ولا نقطعها؛ “ليس الواصِلُ بالمُكافِئ، ولكن الواصل الَّذي إذا قُطِعتْ رَحِمُه وصلَها” (10).
لائحة الأسباب تطول لكن الغرض من هذا الموضوع هو أن يعلم قاطع الرحم أنه مرتكب لذنب عظيم سيرى عقوبته في الدنيا قبل الآخرة، ويؤثر على جميع أعماله الصالحة؛ فلا يؤجر عليها مادام قاطعا لرحمه، وأن عليه البدار بالتوبة منه؛ بوصل ما قطع من رحمه والندم على ما فات والإكثار من الاستغفار، فالله غفور رحيم يفرح بتوبة عبده ويغفر الذنوب وإن عظمت، فلا نقنط من رحمته ولا نقنّط أحدا إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يشاء (سورة النساء، الآية 48).
والحمد لله رب العالمين.
(1) أخرجه البخاري، رقم الحديث 4830. ومسلم، رقم الحديث 2554.
(2) أخرجه ابن حبان في صحيحه، رقم الحديث :344. وأبو داود في صحيحه، رقم الحديث 1694.
(3) أخرجه البخاري في الأدب المفرد.
(4) أخرجه البخاري ومسلم.
(5) جزء من حديث رواه البخاري ومسلم.
(6) جزء من حديث طويل أخرجه الإمام مسلم.
(7) أخرجه الإمام البخاري في الأدب المفرد.
(8) أخرجه الإمام مسلم.
(9) أخرجه الترمذي وابن ماجة والإمام أحمد.
(10) أخرجه البخاري.