2-أشواق وآهات
للناس في شوقهم -إلى البيت العتيق- قصص وحكايات، يروونها فينشطر القلب وتنهمل العبرات، يتحدثون عن سنين قضوها في أنين وحنين وآهات، وأيام صبر واصطبار وانتظار واحتظار بين مطرقة الشوق وسندان العجز أو المنع.
وهذه إحدى قصص المشتاقين يرويها أحد المشرفين على استقبال الحجاج في مطار جدة. قال:
“كنا ننتظر وصول طائرة قادمة من إحدى دول آسيا في ساعة متأخرة من الليل… فلماّ حطّت الطائرة ووضع سلّم الهبوط وفتح الباب، أطلت علينا عجوز تجاوز عمرها السبعين أو الثمانين سنة. أخذت تنزل ببطء شديد ونحن ننتظر بفارغ الصبر، وما إن وضعت قدميها على الأرض حتى سجدت شكرا لله ربّ العالمين… سجدت وأطالت السجود ونحن نتابع فعلها بذهول… انتظرنا رفعها من السجود لكنها لم ترفع… حملناها، فإذا هي قد فارقت الحياة…
استغربت لأمرها وسألت من برفقتها: بالله عليكم أخبروني خبر هذه المرأة…
قالوا وعيونهم تذرف: هذه المرأة لطيلة ثلاثين سنة وهي تضع الدينار على الدينار لتحجّ بيت الله الحرام”.
يا لله… ثلاثون سنة من الانتظار….
ثلاثون سنة من الصبر والاصطبار…
ثلاثون عاما من الأشواق…
ثلاثون عاما من اللوعة والاحتراق.
وهذه قصة أخرى سمعتها بنفسي:
في الربيع النبوي لسنة 1437ه، كتب الله لي أول زيارة للحبيب المصطفى، أذكر جيدا أنها كانت ليلة الأحد حينما كنت أنوي الرباط بجوار الروضة الشريفة… فإذا شيخان أسودا اللون يبدو من ملامحهما أنهما من جنوب الصحراء يجلسان إلى جنب الروضة الغناء.
جلست بقربهما، فابتسم لي أحدهما وسلّم، فبادلته الابتسام، ورددت السلام، ولم أتكلم…
فابتدأني قائلا: من أين أنت؟
قلت: من المغرب…
قال: ما شاء الله …
قلت: ومن أين أنتما؟
قال: من بوركينا فاسو.
قلت: كم مضى عليكم من الوقت وأنتم هنا؟ ظننتهم معتمرين مثلي…
قال: آه خمسون سنة،
أحسست بحرِّ الدموع وهي تشوي خدي، وبشيء في داخلي يحرق فؤادي وكبدي.
قلت ما شاء الله… وسألت الآخر وأنت؟
قال لي: من بوركينا فاسو كذلك، ولي خمسون سنة هنا، لكن أنا سكنت مكة المكرمة، وهو استقرّ هنا بالمدينة المنورة.
رجعت إلى الشيخ الأول وهو ابن الثمانين سنة أو أزيد، قلت له: وما سبب مجيئك أول مرة إلى هنا؟
قال بكل بساطة وثقة: “مجاورة الحبيب”.
بكى قلبي، وأزّ الجوف واهتزّت الضلوع، وانفجرت الدموع كأنها ينبوع
لملمت جراحي، وحبست نُواحي، وكفكفت بنات عيني، وأصغيت.
أردف قائلا: “انطلقت من بوركينا فاسو أنا وأمي وأخي وزوجتي وابني وابنتاي، انطلقنا برا نحو مصر.
في الطريق ماتت الزوجة، وبعد صيف تبعها الولد، ثم لحقت بهما البنتان، ولم يتبقَّ منّا إلاّ أمي وأخي وأنا.
ازداد الفؤاد انتحابا، والدموع انسيابا.
يا لله هذه حال العشاق…
ألديك -أخي الحاج- مثل هذه الأشواق؟
هذا حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تجلّيه آيات الأنفس والآفاق: “من أشدّ أمتي لي حباّ ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله”. رواه مسلم.
وحكى لي أحد إخواننا القاطنين بالمدينة المنورة، قصة من أبلغ القصص، قال:
شيخ مغربي من قرّاء سوس، معلّم قرآن وملقّن دروس، غلبه الشوق وخلال أيامه أخذ يجوس، فلا طاب له نوم ولا قيام ولا جلوس.
فودّع الأحباب، وسرّح الطلّاب، وقصد طابة فبكى بالباب ولثم الأعتاب.
وقال سيدي أبا الزهراء جئتك أنوي المقام، فهل أنال المرام؟ أتقبلني جارا يا خير الأنام؟
ارحم -سيدي- نازحا جريحا ناوشت فؤاده سيوف الغرام، فترك الديار وودّع الخيام وساكني الخيام.
أمهله الحبيب ثلاث ليال بالكمال والتمام، ثمّ أتاه صِدقا وحقّا في المنام؛ قال له: عُد من حيث أتيت ونحن نأتيك، عُد وعلّم القرآن هكذا لجوارنا نرتضيك…
قربنا لا يحسب بالذراع والباع ولكن بالطاعة والاتباع…
أعندك -أخي الحاج- الاستعداد لأن تضحي بالأهل والمال، لتبلغ المنى وتحصِّل النوال…؟
أعندك مثل هذا الشوق لتشدّ الرحال، وتخوض مع النفس النزال…؟
الركب فات! الركب فات! .. وطفقت أسكب في الدموع السائحات
الركب فات! الركب فات!.. نم هانئا متلذذا طعم السبات
الركب فات! الركب فات!.. يا حسرتي سبق الرجال وتِهت في هذه الحياة
أعندك فهم الرجال، وهمّ الرجال، وعزم الرجال…؟
هيهات… هيهات… فاتنا الركب وبلغ قمم الجبال!