هنية آية من آيات الله

Cover Image for هنية آية من آيات الله
نشر بتاريخ

 قال تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نات بخير منها أو مثلها 1. كم تلوت هذه الآية الكريمة، وكم من التفاسير على اختلاف مدارسها تناولتها بالتوضيح والتفصيل، بل إن هناك علما قائما بذاته وهو علم الناسخ والمنسوخ، اتخذ من هذه الآية من بين أدلة قيامه ووجوده، لكن عندما سمعتها من فم أحد الصالحين في إحدى خطاباته التي نعى فيها المجاهد الشهيد أبو العبد إسماعيل هنية، رحمه الله ورفع مقامه، وهو يشير ويلمح من طرف خفي لإشارة لطيفة، دون تصريح، إلى أن الشهيد، بإذن الله، آية من آيات الله وأن استشهاده يعتبر نسخا لهذه الآية وأن الله سبحانه وتعالى سيأتي بخير منه أو مثله ليواصل ما بدأته الآيات السابقه له، من لدن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى آخر الزمان من جهاد وإعلاء لكلمة الحق وتبليغ عن الله، ودلالة على الله سبحانه وتعالى، فيقومون بما أمر الله به في أنفسهم، وفي أمتهم، ويصلحون في الأرض ويعمرونها.

هنية الآية

للفظ آية في القرآن الكريم عدة معاني من بينها: 

· معنى الحجة والدليل، ومن ذلك قوله تعالى ومن آياته منامكم بالليل والنهار 2.

· معنى المعجزة، ومن ذلك قوله تعالى فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات 3، والمعجزات دلالة على صدق من جاء بها وعلى قدرة الله سبحانه وتعالى.

· معنى العبرة والعظة ومن ذلك قوله تعالى ولنجعله آية للناس 4.

· معنى العلامة والدلالة ومن ذلك قوله تعالى لقد كان لسبإ في مسكنهم آية 5.

 ومن من المؤمنين الصادقين يشك أن الشهيد أبو العبد، رحمه الله وأكرم مثواه، هو كل ذلك، فقد  كان آية في حياته، وتأكد ذلك عند استشهاده، وهو حجة ودليل على المتخاذلين والعاجزين والمتآمرين في آن واحد،  وهو حجه لنا أو علينا، عسى أن نمسك بتلابيب أنفسنا ونجرها لترى ما وصلت إليه همم الرجال الصادقين، وهو دليل حي لما قرأناه ونقرأه كل يوم في كتاب الله عز وجل وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وسير المجاهدين أهل الله وما بذلوا في سبيل الله وفي سبيل إعلاء كلمة الله، من مهج وأموال. كنا نقرأ سيرة الخنساء ونستعظم ما عاشته وما بذلته في سبيل الله، فإذا بنا نرى خنساوات في غزة، وكنا نقرأ سيرة عمار وخباب وبلال، رضي الله عنهم أجمعين، وما بذلوا في سبيل الله وفي سبيل دعوة الله، فقدموا أحبائهم وذويهم وآل بيتهم وباعوا أنفسهم لله عز وجل.

هنية معجزة من معجزات الله في هذا الزمن، فقد طلق الدنيا وباع نفسه لله مناضلا مجاهدا، لم تغيره إغراءات الرئاسة ولا المناصب ولا استطاع شياطين الإنس أن يبدلوه أو يغيروه عن وجهته.

هنية عبرة وعظة لنا، اِلْتاع لحال أمته، وحال فلسطين خاصة، فاستوثق مما هو طالب، فانتطق بعزائم الإرادة، ووهب حياته لله، فعاش لله وبالله ومع الله فاصطفاه الله واجتباه ليمنحه أعظم ميتة بعدما أحياه أعظم حياة، وهل من حياة أعظم ممن وهب كله لله وللجهاد في سبيل الله؟!

 ثم إن هنية علامة وصوى من صوى الطريق، لمن أراد العزة والشموخ، ولمن أراد الحياة الطيبة والعيشة الهنية والميتة الرضية، ثم إن شاء الله مجاورة رب العزة في جنان الخلد مع النبيين والصديقين.

 ما ننسخ من آية

من معاني النسخ اللغوية، كل شيء مخلف شيئا فقد انتسخه، وانتسخ الشيب الشباب، وتناسخ الورثة، أن تموت ورثة بعد ورثة، وكذلك تناسخ الأزمنة والقرون. والنسخ أيضا الرفع لشيء قد كان يلزم العمل به إلى بدل منه.

وإذا كانت معظم التفاسير تتحدث عن هذه الآية من منطلق علم الناسخ والمنسوخ، من تبديل الحكم أو نسيان الآيات أو حذفها، وغير ذلك، ويسهب المفسرون والعلماء في تفسير ذلك وشرحه، فإن التفاسير الإشارية، تشير إلى جانب آخر من ضفاف هذه الآية الكريمة. فصاحب تفسير حقائق التفسير 6 يشرح هذه الآية الكريمة كما يلي: “ما نقلتك من حالة إلى حالة، إلا أوصلناك إلى مقام أشرف منه وأعلى، إلى أن تنتهي بك الأحوال إلى محل الندماء والخطاب من غير واسطة، لقوله دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى”.

وقال سيدي ابن عجيبة في تفسيره البحر المديد في تفسير القرآن المجيد 7: “قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه في تفسير هذه الآية، ما نذهب من بدل إلا ونأتي بخير منه أو مثله، ومعناه ما نذهب بولي إلا ونأتي بخير منه أو مثله إلى يوم القيامة، فالأرض لا تخلو ممن يقوم بالحجة حتى يأتي أمر الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي أمامة رضي الله عنه: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك، قالوا يا رسول الله وأين هم؟ قال ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس” 8.

 وأملنا في الله عظيم أن يكون أبو إبراهيم السنوار خير ناسخ وخير خلف من أبناء الياسين، رحمه الله، ذرية بعضها من بعض، يبدل الله به الشهيد أبا العبد، ويجعله قائدا خيرا منه أو مثله يواصل ما بدأه، ولله الأمر من قبل ومن بعد، فلن يعدو أحد قدره وسابقته عند ربه.

 رحمك الله أيها الشهيد وتقبلك في الملأ الأعلى، وربط على قلوب أهلك ومحبيك، وسلام على أهل فلسطين ورحمة من الله وبركاته وعونه ومدده ونصره.


[1] سورة البقرة، آية 106.
[2] سورة الروم، آية 23.
[3] سورة القصص، آية 36.
[4] سورة مريم، آية 21.
[5] سورة سبأ، آية 15.
[6] حقائق التفسير، أبو عبد الرحمن محمد ابن الحسين بن موسى الأزدي السلمي (ت 412ه).
[7] أبو العباس أحمد بن محمد بن المهدي بن عجيبة الحسني الأنجري الفاسي (ت 1224ه).
[8] رواه الطبراني ورجاله ثقات.