ما أحوجنا ونحن في زمننا هذا أن نستقرئ حياة من عشن في خير القرون نستمد منهن نور النبوة كما استمددنه هن منه عليه الصلاة والسلام، فصارت حياتهن كلها متنورة بنور الوحي، مهتدية بالهدي النبوي. هذا حال من صحبنه عن قرب فكيف بمن عشن معه تحت سقف واحد. بل كيف بمن خرجن من ذلك الصلب الطيب. إنهن بنات رسول الله عليهن السلام، السيدات الزكيات الجليلات اللائي ظلت حياتهن على قصرها حافلة بالدروس والعبر لكل طامحة للمعالي.
لنبدأ بأول حبات العقد؛ أكبر بناته صلى الله عليه وسلم، سيدتنا زينب عليها من الله ألف سلام.
فضلها عليها السلام
أي نسب يضاهي نسب سيدتنا زينب عليها السلام، وهي بنت خير من أقلت الغبراء على وجه الإطلاق، بل هي أول باكورة زواجه صلى الله عليه وسلم من أكمل النساء خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها. تزوجها في حياة والدتها ابن خالتها أبو العاص ابن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس، كان رسول الله يثني عليه خيرا لوفائه وأمانته. أمه هالة بنت خويلد، ظل رسول الله عليه الصلاة والسلام يكرمها حتى بعد وفاة السيدة خديجة إحسانا ووفاء. فولدت زينب لأبي العاص عليا وقد مات صبيا، وأميمة التي كانت تعتلي صغيرة ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالناس، وتزوجها حين كبرت علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد وفاة خالتها الزهراء عليها السلام. هاجرت سيدتنا زينب وأوذيت في الله فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “هي خير بناتي أصيبت في” (رواه الطبراني والبزار برجال الصحيح).
حب ووفاء متبادلان
استجاب البيت النبوي للأمر الإلهي، بمن فيهم زينب عليها السلام، باستجابة صاحب الرسالة عليه من الله أزكى الصلاة والتسليم، وبقي زوجها أبو العاص على شركه. جاء في سيرة ابن هشام (2/ 103) “كان أبو العاص من المعدودين من رجال مكة مالاً وأمانة وتجارة، أسلمت زينب وثبت زوجها على شركه فمشوا إليه – أي قومه من قريش – فقالوا له: فارق صاحبتك ونحن نزوجك أي امرأة من قريش إن شئت – نكاية في رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال: لا والله إني لا أفارق صاحبتي وما أُحب أن لي بامرأتي امرأة من قريش”. لقد كان حب زينب ومكانة أبيها في قلب أبي العاص أقوى من كل الضغوطات، وما كان لامرأة أخرى أن يعلو نسبها على نسب بنت الأمين، ولا أن تحل محل المرأة الصالحة التي يقدر الزوج قدرها. قال مادحا إياها في إحدى روحاته للتجارة بالشام:
ذكرت زينب لما يممت إضما ** فقلت: سقيا لشخص يسكن الحرما
بنت الأمين جزاها الله صالحة ** وكل بعل سيثني بالذي علما
إنها المروءة في أبهى صورها لا يقابلها إلا صنيع في نفس الدرجة من الوفاء. وفاء تربت عليه الطاهرة الزكية في بيت النبوة حالا ومقالا.
شارك أبو العاص بن الربيع في الحرب ضد المسلمين في موقعة بدر، موقف لا بد منه لأنه من مقتضيات البقاء على دين الآباء والأجداد، وما كان قومه ليرضوا منه بأقل من ذلك، إن كان هو غلبهم في أمر شخصي – تطليق زوجته – فلا مفر من مشاركتهم في أمر المعتقد والمصير الجماعي.
وما لبث الزوج المحب أن وقع أسيرا في أيدي المسلمين.
فماذا كان موقف السيدة زينب؟ هل ثارت لأن زوجها حارب أباها وهو الرسول من عند الله وهي لا تشك قيد أنملة في صدق ما جاء به، وفي بطلان ما عليه زوجها وقومه؟ وقد تقف الواحدة منا من زوجها موقف العدو من عدوه لأتفه الأسباب خاصة إذا كان الأمر يتعلق بأهلها وذويها، وقد تطلب الطلاق وهي ذات العيال لقصور في فهم الدين لكون زوجها لا يصلي أو يشرب الخمر أو … لما سمعت شيخا في بعض القنوات التلفزية يشهر سيف العقيدة يرمي بالفتاوى ذات اليمين وذات الشمال من فوق منبره لا يبالي بمن شرد من أطفال وما قطع من أرحام، وقد كان السلف الصالح يتورعون عن الفتوى، ولا يجد أحدهم في نفسه غضاضة أن يقول لا علم لي استبراء لدينه وصونا لآخرته، في زمان كان فيه الحلال بين والحرام بين، فكيف بزمن كشرت فيه الفتن عن أنيابها حتى ليصبح المرء مسلما ويمسي منافقا.
أما زينب وهي اللبيبة الماهرة في نيل مرادها فلم يهنأ لها بال حتى بعثت إلى أبيها تفتدي أب العيال بمال وقلادة كانت أمها خديجة قد جهزتها بها يوم زفافها، كيف لا تفعل وهو كما جاء على لسانها عليها السلام “إن بعد فهو ابن الخالة وإن قرب فهو أبو العيال”، فهو ذو رحم أولا ولها معه عشرة وأبناء، كل ذلك لا تملك المرأة الأصيلة أن تتنكر له فكيف ببنت من يصل من قطعه ويعطي من حرمه ويعفو عمن ظلمه، بأبي هو وأمي. وأمها هي خديجة، مدرسة الوفاء والتضحية ورجاحة العقل.
وسرعان ما حركت قلادة الحبيبة خديجة ذكريات ليست بعيدة عن القلب الرحيم، فرق لها رقة شديدة، كما عبرت عن ذلك عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، فنادى عليه الصلاة والسلام في الناس سائلا وليس آمرا أن يردوا لها – إن شاءوا – مالها ويطلقوا لها أسيرها. وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من ختنه أبي العاص العهد أن يرسل إليه زينب عندما يرجع إلى دياره فقد فرق الإسلام بينهما ووفى أبو العاص بوعده فكان رسول الله يذكر له ذلك.
(يتبع)