الركوع صورة من صور التذلل بين يدي العظيم سبحانه، الانحناء بالظهر لله تعالى، والظهر به يكون قيام العبد وقعوده، وحركاته وسعيه في الدنيا لقضاء المآرب والحاجات. ومن ثمرته تعلم التواضع لعظمة الله تعالى، والانكسار أمام عظمة الله تعالى وكبريائه وسلطانه وملكوته. لذلك نسبح الله تعالى حينها بصفة التعظيم: “سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ ثَلَاثَ مَرَّات” أو خمسا أو ما تيسر من الأدعية المأثورة في الركوع 1.
ما أحلى الانحناء أمام الكريم الوهاب!
“اللَّهم لكَ ركعتُ، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمْعي وبصَري ومُخِّي وعظْمي وعصَبي”.
ومعلوم أن من تواضع لله رفعه، فكأني بالحق سبحانه لما علم من العبد هذا التواضع أذن له في الرفع من الركوع، مستمرا في عبارات الحمد والثناء: “سمع الله لمَن حمِده”، يسمعها من الإمام، ثم يقول بعده: “رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْء السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمِلْء مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ” 2.
وهنا تتجلى معاني الحمد الكثير والثناء الجميل اللذين يملآن قلب المؤمن الذي يعجز عن أداء شكر النعم الكثيرة وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا [النحل، 18].
كيف لا! والتسبيح بحمده يملأ ما بين السماوات والأرض “والحمدُ للهِ تملأُ الميزانَ، وسُبحانَ اللهِ والحمدُ للهِ تَملآنِ ما بين السماءِ والأرضِ” 3، فكأني بالمصلي لم يعد يقدر على الوقوف محمولا على قدميه، فيخر ساجدا أمام العظيم الكريم.
وفي السجود معاني أخرى متجددة للقلب المؤمن في المثول بين يدي ربه جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) [الإسراء].
في السجود يضع العبدُ وجهَه، عنوان شرفه، على الأرض خُضوعا لله تبارك وتعالى، ويتضرَّع بلسان الحال والمقال، امتثالا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: أَقْرَبُ ما يَكونُ العَبْدُ مِن رَبِّهِ، وهو ساجِدٌ، فأكْثِرُوا الدُّعاء” 4.
هنا يسجد العبد على سبعة أعضاء، عن ابن عباس -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: “أُمِرْتُ أنْ أسْجُدَ علَى سَبْعَةِ أعْظُمٍ؛ علَى الجَبْهَةِ، وأَشَارَ بيَدِهِ علَى أنْفِهِ، واليَدَيْنِ، والرُّكْبَتَيْنِ، وأَطْرَافِ القَدَمَيْنِ” 5.
ويستحب أن يسأل العبد مجامع الخير؛ أن يكون من أولياء الله تعالى الطالبين رضى الله تعالى، الحافظين لكتابه، الداعين لدينه وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم.
ولا ضير أن يطلب ما يحتاجه في معاشه ومعاده مما يرضى به ويرضي به ربه تعالى، بل ويستحضر نعمة تسوية خلقه وتكريم المولى له: “اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ” 6.
ثم يجلس بين السجدتين، وكأنه لا يملك الاستطاعة على القيام على قدميه للصلاة مرة أخرى، إلا بعون منه سبحانه، لذلك يسأله ذلك بصيغة المتكلِّم المفرد لينعم بركعة ثانية، فيقول: “اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاجْبُرْنِي، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي، وَعَافِنِي، وَارْفَعْنِي” 7.
وهكذا يمن الله تعالى على العبد بالركعة الثانية، إن كانت الصلاة ثنائية، أو ثالثة إن كانت ثلاثية، أو رابعة إن كانت رباعية، بحسب أحكامها من الجهرية والسرية كما هو فيما بيّنه الفقهاء رحمهم الله تعالى.
يدخل المؤمن الصلاة قائما ويخرج منها جالسا في جلسة التشهد الأخير، ويصل أول الصلاة بآخرها، وليكون مع مواكب الصالحين.
التشهد… مع مواكب الصالحين.
[2] رواه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله.
[3] لفظ الحديث: “الطُّهورُ شطْرُ الإيمانِ، والحمدُ للهِ تملأُ الميزانَ، وسُبحانَ اللهِ والحمدُ للهِ تَملآنِ ما بين السماءِ والأرضِ، والصلاةُ نورٌ، والصدَقةُ بُرهانٌ، والصبْرٌ ضِياءٌ، والقُرآنُ حُجَّةٌ لكَ أوْ عليكَ، كلُّ الناسِ يَغدُو، فبائِعٌ نفسَهُ، فمُعتِقُها أوْ مُوبِقُها” رواه مسلم.
[4] رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] رواه البخاري رحمه الله تعالى.
[6] رواه مسلم رحمه الله تعالى.
[7] سنن الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه رحمهم الله جميعا.