“اشتقتُ لإخواني” شوق آت من السابقين يحِن، وشوق منبعِث من قلب الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم ممتدّ في الزمان عبر الماضي، ومستشرف للمواكب المتطَهرة الآتية إلى يوم القيامة.
“اشتقتُ لإخواني” نداء شوق ومحبة، وحنين ومودة، عبر قطراتِ الوضوءِ الرقْراقِ على الجوارح تنتفضُ طاهرة ببرد اليقين، ونقاء طاهر كنقاء الثوب الأبيض من الدنَس، وغسلٍ من الخطايا بالماء والثلج والبرد.
“اشتقت لإخواني” كلمات تنبعث من اللسان الطاهر، والقلب الرؤوف الرحيم بالمؤمنين، في مشهد من مشاهد الصحبة والجماعة ثلاثِيّ الأبعاد، بعدٌ موصول بمن انتقل إلى الدار الآخرة من جماعة المؤمنين، قضى نحْبه، وبُعد يُشرك الصحابة الأحياء في الشوق، وبعد يمتد للأجيال القادمة من أمة الرسول المشتاق صلى الله عليه وسلم.
ها هو الرؤوف الرحيم بالمؤمنين، الذي رجا المولى الكريم ألا يعذِّب قومَه فإنهم لا يعلمون، يتقدم نحو البقيعِ 1 وهو مستحضِر شهداءَ المسلمين وموتاهم، يستحضِر نقلَتهم لعالم البرزخ.
ها هو ينظر للذين معَه ويلقي التحية والسلام كأنهم معه، لا يمنَع التواصلَ كونهم في غير دار الدنيا: “السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون”.
ها هو يرسل الأشواق للذين يأتون بعده صلى الله عليه وسلم: “وددت أنَّا قد رأينا إخواننا”.
ها هم الأصحاب يتساءلون عن إخوانهم، فيخبرهم ببعض صفاتهم، بل بمُبتدأ صفاتهم ومُفتَتحها؛ الوضوء الذي ينقلب نوراً يوم القيامة في الأطراف، نورا به يتعرفون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبه يعرفهم.
ها هو عليه الصلاة والسلام يبعث الأمل في القلوب أن للقاء بالحبيب يوم القيامة أسباب في هذه الدنيا، ومن أعظمها حسن الوضوء.
فيا شباب أمة يشتاق لها نبيُّها، أحسِن الوضوء والطّهور، تكن في مرمى شوق الحبيب، تكن في ظلّ المتحابِّين بجلاله يوم القيامة، حيث الحرّ والزِّحام، حيث يُنصَب للمتحَابين منابرُ من نور…
يا أمة من يفرحُ بالمتطهرين والمتوضِّئين يتوافدون عليه في يوم السَّعادة العُظمى، يوم لُقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم والفوزِ برضى الكريم الوهاب.
يا أمة الحبيب المشتاقِ؛ تعلَّمي الوضوء وأحسنيه، وأَدخلي في النية التطهر من كل ذنب اقترفته: “إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقياً من الذنوب” 2.
أرأيت! كيف الأعمال السهلة اليسيرة، مقدمة كل أعمال الإسلام والإيمان والإحسان، تحتاج منا النية العظيمة، نية التعرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، نية التطهر من الذنوب قبل الوقوف بين يدي الجليل في الصلاة، فمن أتقنَ وضوءه، وأخلص نيتَه، ورفع همته، كانت صلاتُه مرقاةً في درجات القرب من المولى الكريم سبحانه، إن الله يحب التَّوابين، ويحبُّ المتطهرين، وهو صلى الله عليه وسلم يعلِّمنا أن نقُول بعد الوضُوء هذا الدعاء: “اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين”.
الوضوء! تلك العبادة اليسيرة التي يعَجِّز عنها الشيطان، وتكسُل عنها النفس، هي المفتاح العملي القلبي الدائم لعطاء الله تعالى، لا يستطيع يرقَى في درجات الإيمان، ومراقي الإحسان، من لم يدخل من باب الإسلام. وأولُ الإسلام طَهورٌ ونقاءٌ، وغسلٌ وصفاءُ.
لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن، بل إن الوضوء مجلَبة لحُسن الختام إذا انقضَى الأجل، وسبب في الصون من المولى الكريم، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ. قال: فَرَددْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا بَلَغْتُ: اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، قُلْتُ: وَرَسُولِكَ، قَالَ: لَا، وَنَبِيِّكَ الذِي أَرْسَلْتَ” 3.
وفي الحديث: “مَنْ باتَ طَاهراً بَاتَ فِي شِعَارهِ مَلَكٌ، فلاَ يسْتَيقظْ إلاَّ قالَ المَلَك: اللَّهُم اغفِر لعَبْدِك فُلان، فإنّهُ باتَ طاهراً” 4.
إن الوضوء عنوان الطهارة الظاهرة والباطنة ومبتدؤها. وإن التربية عليه لهي أهم مقدمات الطريق إلى الله تعالى، إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وإنه لمن أهم ما يعرفنا به المحبوب الكريم صلى الله عليه وسلم.
تمام الطهور مع تمام الأعمال الظاهرة الباطنة وكماله، يحيل عبادة الصلاة كائنا حيا ينادي كل خاشع حافظ على الركوع والسجود، والتلاوة والدعاء نداء قبول وامتنان: حفظك الله كما حفظتني.
[2] صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب خروج الخطايا مع ماء الوضوء.
[3] صحيح البخاري.
[4] صحيح ابن حبان، عن عبد الله بن عمر.