إنها الصلاة يا ابنَ الأكرمين عِمَادٌ، إنها هدية المولى للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ولأمته بعده، ولا يستقيم الاحتفاء بالهدية المولوية إلا بالاحتفاء بمقدماتها. ومقدمتها الطهور والوضوء، إذ لا صلاة لمن لا وضوء له 1.
التطهر للصلاة من أقرب القربات وأفضلها، حركاتُ الوضوء وقطراتُ مائه ما هي طهارة حسيةٌ فحسب، وتنظيفٌ للثوب والبدن وكفى. التطهر للصلاة استعدادٌ قلبيٌ روحيٌ بأداءاتٍ بدنيَّة يسيرة، بها التَّعرف على سيد المتوضئين وإمام المصلين صلى الله عليه وسلم.
ما يستحضر قيمة قطراتِ الطهر وحركاتِ الوضوء إلا من رجا مغفرةَ الله، ورحمة الله، وفضل الله. عنْ سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللَّه ﷺ قَالَ: “إذَا تَوضَّأَ الْعبْدُ الْمُسْلِم، أَو الْمُؤْمِنُ فغَسلَ وجْههُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خطِيئةٍ نظر إِلَيْهَا بعينهِ مَعَ الْماءِ، أوْ مَعَ آخِر قَطْرِ الْماءِ، فَإِذَا غَسَل يديهِ خَرج مِنْ يديْهِ كُلُّ خَطِيْئَةٍ كانَ بطشتْهَا يداهُ مَعَ الْمَاءِ أَو مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْماءِ، فَإِذَا غسلَ رِجليْهِ خَرجَتْ كُلُّ خَطِيْئَةٍ مشَتْها رِجْلاُه مَعَ الْماءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ حَتَّى يخْرُج نقِياً مِنَ الذُّنُوبِ” 2.
* فغَسلَ وجْههُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خطِيئةٍ نظر إِلَيْهَا بعينهِ مَعَ الْماءِ أوْ مَعَ آخِر قَطْرِ الْماءِ:
الوجه عنوان شرف الآدمي، والوجه مستقبَلٌ (ما يستقبله بوجهه) في الأمر كله، فإذا رفع الماء بكفيه إلى وجهه غاسلا متطهرا، محا الله تعالى بقطرات الماء ذنوب العين، تلك العين التي تحمل رسائل المبصَرات إلى القلب، فيكون قد امتلأ مما رأى من أحوال الخلق مما يستثير في القلب أمراضا وضغائن، وفتنا ومنغصات، حتى إذا سكب الماء عليها يطيبها ويطهرها من كل ذنب، فتستأنف النظر بطهر وصفاء.
* فَإِذَا غَسَل يديهِ خَرج مِنْ يديْهِ كُلُّ خَطِيْئَةٍ كانَ بطشتْهَا يداهُ مَعَ الْمَاءِ أَو مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْماءِ:
اليدان آلة الكد والكسب، وعنوان العمل والاجتهاد، ووسيلة العمل والإجاز، وبادرة البذل والعطاء، ومصدر البطش والاعتداء، كما هي لمسة الحب والحنان، والرأفة والامتنان.
والعبد المؤمن بين الوضوءين عامل مشتغل، تتحرك يده بنية ما في قلبه وضميره، وتسعى بحسب ما في الباطن من قصود وغايات، الكسب الكسب، والجَنْي الجَنْي، يخالط الحلال الحرام و”ما بينهما” فيتغير القلب وتنكت فيه النكت البيضاء كما السوداء، حتى إذا أقبل على الماء مُسبغا وضُوءه، ومر الكف على الكف، وعلى الذراع، مسحت الذنوب، ما لم تكن حقوقا للعباد، وتجددت الأوبة والتوبة، والرجوع والإنابة، فمغفرة الله واسعة وشوق الرسول صلى الله عليه وسلم لإخوانه متقدة.
* فَإِذَا غسلَ رِجليْهِ خَرجَتْ كُلُّ خَطِيْئَةٍ مشَتْها رِجْلاُه مَعَ الْماءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ:
رمزُ المشي والسير، وسبيل الصعود والترقي القدمان، طوبى لمن كان سيرُه إلى طاعة وقربى، وصعودُه إلى فضل وزلفى، ومشيُه بين الناس بنور الهُدى والتُّقى: أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا. كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام/122].
يمشي وسط المجتمع مبشِّرا ومعلماٌ، وحانيا ومشجعاً، ومرشدا ومعيناً.
هذا وإن القدمَ موطنُ الزلل والخلل الذي يضيع الطريق، ومبعثُ الزيغ الذي يغير السبيل، ومظنة التعب والعياء الذي يوقف السير والسلوك.
وإن الوضوءَ بقطرات مائه النقية لَتغسل ذلك وتجدِّد الهمةَ، وتخفِّف الخطوات وتطْوي المراحل. إكمال وضوئك هذا بغسل القدمين تجديدٌ للمسير، إذ تترك الأثقال على البسيطة تلتهمها الأرض وتمحوها المغفرة.
اِغسل القدم وقلبُك معلق بالمسجد للمثول بين يدي المولى الجليل، اِغسل الرجل والقدمَ تخِف طاقتُك فتغدو بعد الصلاة منطلقا في رحاب الذين تنهاهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر، اِغسل وانهض جديدا متجددا، عاليَ الهمة نشيط الحركة، صافيَ السريرة وافرَ البركة، محصَّنا منيعاً.
خرجت من الوضوء نقيا من الذنب الذي اقترفت قبلُ، فرُدَّ الحقوق إلى أهلها تستكمل الطُّهر والطهارة، أخلِص الدعاء لمن اغتبتَ بلسانك، أو نظرتَ إليه بعين النَّقص والازدراء، أو مددت إليه يدَك بظُلم أو اعتداء…
لا تكتمل الطهارة من الذنوب إلا بأداء الحقُوق وحفظ الأمانات، والوفاءِ بالعهود، والصدق في النية والعمل.
* حَتَّى يخْرُج نقِياً مِنَ الذُّنُوبِ
وضوء كهذا مطهرة وأي مطهرة! فتكون الركعات زيادة فاضلة، ويكون السجود رفعة ومَددا، وتكون الصلاة مرقاة ونافلة، ومعراجا يصلُك بالمعراج النبوي من حيث جاءت الهدية الربانية للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ولأمته المرحومة بقية الله من مواكب المصلين، أمة حي على الفلاح، أمة كثرة الخطا إلى المساجد.
حي على الفلاح.. أرحنا بها يا بلال.