“وامعتصماه”.. صرخة امرأة مسلمة حررت أمة

Cover Image for “وامعتصماه”.. صرخة امرأة مسلمة حررت أمة
نشر بتاريخ

لم تكن هذه الصرخة إلا واحدة من أكثر من ألف أسيرة قادها في أغلال المذلة إمبراطور الروم، وقد وقعت في قلب الخليفة العباسي، ليحرك بسببها جيشا ضخما قوامه 90 ألف مقاتل من نخبة المسلمين. فتمّ حصار عمورية أحد عشر يوما إلى أن سقطت، وردّت كرامة المرأة المسلمة، وردّت كرامة الأمة الإسلامية في ذلك الوقت على يدي الخليفة المعتصم، والذي كان بإمكانه إصدار بيان استنكار وشجب وتنديد، كما يجري اليوم. هكذا وقف هذا الخليفة وقفة شجاعة من قضية امرأة استغاثت به في أقصى البلاد، وما حمله على ذلك إلا غيرته على حرمة ديننا الحنيف.

وما أشبه اليوم بالأمس، حيث تستغيث بلاد بأكملها وشعب برجاله ونسائه وأطفاله، ومع ذلك لا يجد أذناً صاغية. فالدول الإسلامية اليوم كثيرة، ولها أنظمة حكم قائمة بذاتها، وقاعدة بشرية كبيرة، أكثر من مليار مسلم، ماتت مشاعرهم، وغابت الضمائر، رغم ما يشاهدونه يوميا من ممارسات صهيونية في غزة، ليس فقط بحق الأرض والمقدسات، بل بحقّ نساء غزة، والمئات منهن ينزوين اليوم داخل سجون الاحتلال أسيرات مقاومات صامدات، وفي كلّ لحظة يصرخن.. وااااامعتصماه! ولكن من يستجيب لهن من حكام هذا الزمن؟

إن حالة خذلان الأنظمة الإسلامية لأهل غزة، مجرد عرض لمرض، شخّصه النبي صلى الله عليه وسلم بالضعف ألا وهو الوهن، عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائلٌ: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهنَ، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهنُ؟ قال: حبُّ الدنيا وكراهية الموت” 1.

عرّف النبي صلى الله عليه وسلم مفهوم الوهن في الحديث، بأنه يتمثل في حبّ الدنيا وكراهية الموت، وهذا التعريف يشير إلى عدة خصائص تنتاب من يوصف به، حيث الاستسلام وضعف الإيمان يؤديان إلى ضعف البناء النفسي والاجتماعي، مما يجعل الأمة تصاب بالوهن، وبالتالي تتكالب عليها الأمم الغاصبة لنهب ثرواتها وسلب هويتها.

وقد أشار الحديث أيضاً أنه رغم هذه الحالة من الوهن، إلا أن الأمة تملك من مقومات القوة ما لم تكن تملكه من قبل، “بل أنتم كثير”، لكن الوهن أضعف من قدراتها على توظيف هذه المقومات، فصارت الكثرة البشرية كغثاء السيل لا قيمة له.

وهذه الأوصاف تنطبق على أمتنا اليوم، فقد أصابها الضعف في أشد حالاته، وتكالبت عليها الأمم من الشرق والغرب ومن أقصى الأرض، لا همّ لهم إلا سلب ثرواتها ووأد يقظتها، ووضعوا في وسطها كيانا غريبا سموه “إسرائيل” ليمنع وحدتها. وبهذا يثبت لنا الحديث الشريف أن القوة النفسية والإيمانية للأمة هي مصدر عزها وتفوقها، وأنها سبيل إلى التفوق في القوة المادية على الآخر وإن كانت أقل منه في مقومات القوة.

وإذا نظرنا في ملفات التاريخ الناصع لأمتنا، ووقفنا مع موقف غزوة بني قينقاع التي كانت مثالا حيا لقوة الأمة الإيمانية رغم ضعفها المادي، سنجد أن باعثها كان يهودي كشف عورة امرأة، فقفز عليه مسلم فقتله، وبعد هذا الفعل تحرك جيش المسلمين لنصرة نسائهم، رغم قلة عددهم وضعف عتادهم، لكن قوتهم النفسية والإيمانية جعلت لهم هبة في نفوس أعدائهم ركعت أمامها قوتهم.

المشهد هنا يصور تحركا فرديا وجماعيا لحماية امرأة كشفت عورتها فقط، أما الآن فنساؤنا يغتصبن، وأطفالنا يقتلون، وحرماتنا تنتهك، والغريب أن ذلك يتم ونحن في حالة من القوة المادية: عدة، وعتاد، وعدد… لكن في حالة من الوهن. فبعيدا عن المواقف المعتادة لدول الغرب والتي تدعم دولة الاحتلال قلبا وقالبا، وبعيدا عن كل الأنظمة والدول العربية والإسلامية التي تحمل راية التطبيع العلني مع هذا الاحتلال، نجد خذلانا كبيرا لغزة من أولئك الذين يزعمون أنهم حلفاؤها لتكشف هذه الحرب ادعاءاتهم. حيث يعملون بخبث على حصر ما يحصل في غزة ضمن زاوية المساعدات الإنسانية وبالتالي تحريف البوصلة من أرض تحرق وشعب يباد إلى قضية طعام وشراب.

وهذا يثبت لنا حقيقة أن الشعب الفلسطيني هو المعتصم اليوم، والمقاومة المسلّحة هي الضمير، والحملات الموجهة نحو العدو هي الكرامة، والقدس ستعود حتما كما عادت عمورية، وسيأتي اليوم الذي ستستيقظ الأمة من كبوتها وتتخلص من الوهن على أيدي العلماء المجددين والدعاة المصلحين، والمعلمين ورثة الأنبياء والمرسلين؛ لأن هؤلاء من يشكلون وعي الأمة، ويشدونها إلى المنهج الصافي الذي وضعه الله لخير الأرض كلها. وكذلك لن يتحقق النصر إلا بولوجنا كل أبواب الجهاد، بدءا بالجهاد الأكبر “جهاد النفس المفردة في ذاتها، وجهادها لتستقيم في عبوديتها لله، وجهادها لتتخلق، وتبذل، وتتعلم، وتعمل، وتجاهد” 2. وانتهاءً بجهاد الكلمة لإبلاغ النبإ العظيم للإنسان الجاهل بدينه وهويته، وللصدع بكلمة الحق في وجه سلطان جائر. فيقول في هذا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: “إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذُلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم” 3.


[1] رواه أحمد وأبو داود بإسناد صحيح.
[2] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ط 2022/5، دار إقدام للطباعة والنشر والتوزيع، إستنبول، ص 408.
[3] رواه أحمد عن ابن عمر.