بقدر ما حققت المقاومة الفلسطينية انتصارات عظيمة عسكريا وأخلاقيا وإنسانيا بقدر ما تدحرج الغرب المساند للاحتلال الصهيوني إلى دركات الحيوانية والجريمة، ضاربا بعرض الحائط شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواثيق الدولية. فبعد عملية طوفان الأقصى الناجحة ضد الاحتلال، والتي نفذها رجال المقاومة الفلسطينية بغزة صبيحة يوم السبت السابع من شتنبر، أصيب الاحتلال الصهيوني بالدهشة والصدمة من هول الخسائر التي تكبدها جيشه الذي لا يقهر، فشن هجوما أعمى، هدفه إبادة غزة برجالها وأطفالها ونسائها ومؤسساتها، وهذا ما جعل هذا الصراع يتجاوز بعده العسكري الميداني إلى أبعاد أخلاقية وإنسانية.
وحتى الآن، وبعد مرور أكثر من أربعة أسابيع على عملية طوفان الأقصى، نجحت المقاومة الفلسطينية في إدارة الحرب إلى صالحها، واستطاعت إقناع الشعوب بعدالة قضيتها، ووحشية عدوها الذي يستهدف المدنيين بأطنان القنابل مما أدى إلى ارتفاع عدد الشهداء إلى حوالي عشرة آلاف شهيد معظمهم من الأطفال والنساء.
ورغم كثرة الضحايا في صفوف المدنيين في غزة، فإن كفة الميزان تميل مع مرور الوقت، أخلاقيا وإنسانيا، لصالح القضية الفلسطينية، وهذا ما يفسر ازدياد تعاطف الشعوب مع غزة الصامدة، بما فيها شعوب الدول الغربية، حيث خرجت المسيرات في جميع العواصم العالمية تضامنا مع فلسطين وشجبا لغطرسة الاحتلال وهمجيته ووحشيته، كما تزايدت تصريحات وتغريدات سياسيين ورياضيين وفنانين عالميين، وكلهم يطالبون بوقف الحرب على غزة. بل إن دولا قد اتخذت مواقف جريئة ضد الكيان الصهيوني منددة بجرائمه مطالبة بوقف الاعتداء على غزة، وهذا كله دليل على انتصار المقاومة في الحرب الأخلاقية والإنسانية، لأن أفعال وجرائم العدو فاقت جميع التصورات عن مدى الدناءة والوحشية التي قد ينحدر إليها الإنسان.
إنها الحرب الأخلاقية إذن. وهي لا تقل أهمية عن الحرب العسكرية أو الإعلامية أو الاقتصادية، بل يمكن القول إنها الأخطر والأجدى والأبقى، ولحدود الساعة، استطاعت المقاومة الفلسطينية أن تربح هذا الرهان، فأثناء اجتياحها لغلاف غزة، تجنبت قتل النساء والأطفال والشيوخ، ووثقت ذلك بالصوت والصورة، فتركت بصمتها في عقول ووجدان هذه الفئة، وتجلى ذلك في تصريحات بعض النساء وهن يتحدثن عن اقتحام بيوتهن من طرف رجال المقاومة وعدم تعرضهن لأي نوع من أنواع العنف أو الإهانة، بل إنهن تفاجأن بالأخلاقية العالية لهؤلاء الرجال، حتى إن إحداهن تحكي مندهشة أن أحد الرجال طلب منها الإذن ليأكل من الطعام.
ودائما في سياق التعامل الأخلاقي مع الأسرى، وبعد أسبوعين من انطلاق عملية “طوفان الأقصى”، ولدواع إنسانية؛ أفرج رجال المقاومة عن أسيرتين، وقد صرحت إحداهما في مؤتمر صحفي بأن حماس عاملتها بلطف، حيث قالت إن المقاومة الفلسطينية عاملت الأسرى بلطف ولم يتعرض لهم أحد بأذى، ووفرت لهم دواءً وأطباء وطعاماً هو الطعام نفسه الذي يأكله المقاتلون، كما حافظت دائماً على نظافتهم وصحتهم ونظافة المكان.
إنه انتصار أخلاقي وإنساني للمقاومة جعل الترسانة الإعلامية الدعائية للاحتلال الصهيوني في مأزق حقيقي، خصوصا أنها جندت جميع المنابر الإعلامية العالمية للتسويق لوجهة نظرها التي تريد تشويه المقاومة الفلسطينية وإظهارها في صورة حيوان متوحش. فهي إذن حرب شرسة على المستوى الإعلامي، حيث نجد محاولات العدو المتكررة لإظهار رجال المقاومة كحيوانات متعطشة للدماء، بل يدعون وجود جثث للأطفال وهي مقطعة الأوصال في الأماكن التي اجتاحتها المقاومة، حتى أن الرئيس الأمريكي لم يتوقف عن الحديث عن الأطفال ضحايا هجوم المقاومة، قبل أن يبلع لسانه ويخرس لانعدام الدلائل والصور على ادعاءاته، مما جعل التسويق لهذه الدعاية يتعرض للتشكيك. فانكشفت الأكاذيب والافتراءات الصهيونية أمام العالم.
ومن أكبر الشواهد والأدلة على لاأخلاقية ولاإنسانية الاحتلال الصهيوني هي استهدافه للمساجد والكنائس والمستشفيات والأماكن السكنية في غزة وقتله لمئات الأطفال والنساء، ومن أفظع هذه الصور استهدافه لمشفى المعمداني ولسيارات الإسعاف، فعن أي إنسانية يتحدث الصهاينة وأيديهم ملطخة بدماء الأطفال والنساء، بل إن فعلهم ذاك دليل على أنهم مجرمون، قتالون، مفتقدون للمشاعر الإنسانية، هم ومن ساندهم من الدول الغربية، وبذلك تتوضح بجلاء حقيقة الغرب العنيفة والعدائية لكل ما هو إسلامي.
إن الاصطفافات التي فرضها واقع الصراع بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الصهيوني فضحت النوايا وكشفت السرائر، وأظهرت الوجه الحقيقي للغرب بعد نزع الأقنعة، فشعارات حقوق الإنسان وحماية المدنيين أثناء الحروب أصبحت بلا معنى، والكيان الصهيوني خرق جميع القوانين الدولية، وعلى رأسها اتفاقية جنيف بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب التي ترجع لسنة 1949 مع البروتوكولين الإضافيين لسنة 1977، والذي يعتبر بمثابة قانون دولي إنساني ينص على حماية المدنيين ومعاملتهم معاملة إنسانية في جميع الظروف، وعدم تعرضهم للتعذيب والقتل والمعاملة المهينة أو التجويع والحرمان من الماء. وجيش الاحتلال خرق جميع القوانين وعرض الأطفال والنساء في غزة للتجويع والقتل والحرمان من التطبيب. طبعا هذه الخروقات اللاإنسانية ما كان لها أن تقع لولا مباركة الولايات المتحدة الأمريكية ومن سار سيرها من الدول الأوروبية.
لقد خسر العدو المعركة الأخلاقية بامتياز، وظهر بوجهه المتوحش رغم المساحيق الإعلامية والدعايات الكاذبة، المعدة سلفا لتلميع جرائم العدو التي ترقى حسب القانونيين إلى مرتبة جرائم الحرب، فطوابير الأطفال الذين يتم انتشالهم من تحت الأنقاض في غزة لا تترك للمتتبع المنصف أدنى شك في أن العدو لا يأبه بالأخلاق ولا يحفل بالقوانين ولا يحترم الأديان.
فرغم التجييش الإعلامي الذي تتحكم فيه القرارات العسكرية، والاصطفافات الولائية اللامشروطة للاحتلال، ستظل الحقيقة التي ترسم في وجدان الأمم والشعوب هي الأبقى، وصوتها هو المسموع في أعماق الانفعالات الإنسانية، فالمعركة ليست للدفاع عن الأرض فقط، ولكنها معركة شاملة هدفها تحرير الإنسان من الذل والخنوع والخضوع للظالمين، وغايتها الانتصار للمبادئ والأخلاق والقيم الإنسانية.
فمن ذا الذي يستطيع نسيان المجازر الصهيونية في غزة المحاصرة منذ 2007، وصراخ الأطفال وبكاؤهم يخترق الحجر والشجر، ويمزق كل الحواجز ليستنهض الضمائر الحية في كل العالم، فيكفي أن تكون إنسانا لتتضامن مع فلسطين، يكفي أن تكون آدميا لتلعن وتمقت الحيوانية الصهيونية، وتشجب الجرائم التي يرتكبها الاحتلال ضد الأطفال والنساء، يكفي أن تكون منصفا وعادلا لتكتشف وحشية الاحتلال ومن سانده ودعمه من قوى الاستكبار العالمي وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي أمدت هذه النبتة السامة بالمال والسلاح والتأييد اللامشروط.
إن ما يقع في غزة يعطي الدليل، لمن ما يزال يبحث عن الأدلة، على طبيعة الكيان الصهيوني الظالم والفاسد، فالقرآن الكريم قد أخبر عن حقيقة اليهود، فهم قتلة الأنبياء، غدارون، ينكثون العهود، فاسدون… وقل ما شئت من المثالب والمخازي والرذائل، قل ما شئت عنهم و شواهد التاريخ البعيد والقريب تؤكد هذه الحقائق، ويكفي الرجوع لسنة 1948 و ما بعدها، لتجد صفحات الصراع بين الاحتلال الصهيوني وفلسطين تشهد على دموية الاحتلال، فالمجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية المسلحة ضد الفلسطينيين العزل، كمجزرة دير ياسين مثلا، أودت بحياة مئات الآلاف منهم وشردت من بقي عن أراضيهم ليستوطنها اليهود القادمون من الشتات بعد أن أبادت قرى وبلدات فلسطينية، ولا غرابة أن تصدر منهم هذه الجرائم ونصوصهم المقدسة تحرضهم على القتل والنهب تقربا للرب، فنجد في التوراة: “إن سمعت عن إحدى مدنك التي يعطيك الرب إلهك لتسكن فيها قولا.. فضربا تضرب كل سكان المدينة بحد السيف، تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها وتحرق بالنار المدينة، وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك، فتكون تلا إلى الأبد لا تبنى بعد.. لكي يرجع الرب عن حمو غضبه ويعطيك رحمة” (سفر التثنية إصحاح 13). وتماديا في إجرامه، ها هو يحرق غزة بنار الصواريخ وأطنان المتفجرات الممنوعة دوليا، ويشن الحرب عليها لتهجير سكانها من جديد.
إن غزة اليوم تعتبر الصخرة التي تتحطم فوقها جميع المطامع والمشاريع الصهيونية الأمريكية في المنطقة. فهي رمز الرفض والممانعة للاحتلال، وهي إلى جانب قوتها وبسالة رجالها، تكون قد فرضت نوعا جديدا من الأخلاقية، البعيدة كل البعد عن منطق الحرب الأعمى والهمجي، ولا غرابة في هذا، فالمرجعية الإسلامية للمقاومة تدعوهم لمناهضة الظلم ورد العدوان مع الاقتداء بتوجيهات النبي صلى الله عليه وسلم في الحروب، فقد روى أبوداود عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً ولا صغيراً ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين”، وفي القرآن الكريم نهى الله تعالى عن الاعتداء، قال تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (سورة البقرة، آية 190).
إن ما يقع على أرض غزة يجعل هذا الصراع في فلسطين يتخذ أبعادا كثيرة تتجاوز الرقعة الجغرافية التي تدور فيها إلى أبعاد إنسانية ثقافية أخلاقية حضارية. والعدو بمن تحالف معه من البلدان الغربية، سيحاول تشويه المقاومة الفلسطينية، ومحاصرة مواقفها الأخلاقية والإنسانية، والتشويش على عدالة قضيتها وحقها في تحرير أرضها من الاحتلال، وسيحشد من أجل ذلك إمكانياته الإعلامية الهائلة، ولكن هيهات له لن يحجب الحقيقة، فهي كنور الشمس لا يحجبها الغربال.
وفي الأخير فإن المقاومة بصمودها وثباتها في ميدان المواجهة العسكرية وتمسكها بالقيم الأخلاقية والإنسانية عند تدافعها مع الاحتلال ومن يقف وراءه، فإنها بسلوكها الجهادي هذا تصنع واقعا جديدا يبشر باقتراب النصر والتمكين، وحينئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، والله خير ناصر وخير معين وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (سورة الحج، آية 39).