وتستمر المقاومة رغم التضييق والحصار، ويستمر رفع صوت جند الله عاليا رغم بشاعة المعتدين وبلاهة المنبطحين، يستمر مدويا ضاربا أزكى الأمثلة على الشجاعة والصمود، على قوة أهل الحق الذين يدفعهم الحق الذي معهم ليدافعوا ببسالة عن الأرض والعرض، وتحدي العالم من أجل تبليغ الحق الذي معهم، والذود عن الحق الذي يؤمنون به.
وضرب لنا الدرس الفلسطيني المثال عن كيف للأمة أن تنبعث من ركام، كيف لها أن تنطلق من إمكانياتها المحدودة لتتقدم الأمم، كيف للحق أن يسطع رغم الحجب، كيف له أن يعلو رغم النتوء، كيف للعدى أن تُصد رغم الإمكانيات الهزيلة، يعلمنا أن الانبطاح ذل لا يأتي بخير، وأن خطب ود من لا يستحق لا يزيد الأمة إلا هوانا، وأن القوة في الحق مطلب وأي مطلب، وأن العزة بالله تعالى وله.
ما أشبه اليوم بالبارحة، والبارحة ليست مواقف تتلى للتأريخ لمرحلة مرت بها دعوة الحق، بل دروسا نبني عليها أمجادنا الدائمة إن نحن تمكنا من حسن استخلاص العبر.
ما أشبه المسلمين في غزوة الأحزاب بغزة العزة والإباء، وقد اجتمعت الأحلاف لمحاربتهم واستئصال شأفة دولتهم الفتية في المدينة، جاؤوا بكل ما أوتوا من دعم بشري وقوة سلاح وخطط حرب، وبتأليب من يهود الذين أخلفوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وغدروا به، وعملوا على رسم الخطط الخبيثة للانتقام منه عليه الصلاة والسلام ومن المسلمين بعد أن أجلاهم من المدينة.
بحقد دفين وضغينة متسترة، عملوا على تحريض القبائل العربية على محاربة المسلمين، وعلى رأسها قريش وغطفان ومن معها من القبائل، تحركهم جميعا الرغبة في الانتقام والسلب والنهب وبسط السيطرة على فئة المؤمنين الموحدين.
وكعادتهم في الإغراء والوسوسة وإشعال فتيل الحروب، أملى اليهود على قريش أن دينهم؛ دين الوثنية الخبيثة المؤلهة للشجر والحجر، خير دين، بل وخير من دين الله تعالى المبتعث به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم الأحق بالحق منه 1. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “كان الذين حَزَّبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة: حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، وأبو عمار، ووَحْوَح بن عامر، وهوذة بن قيس، فأما وحوح وأبو عمار وهوذة، فمن بني وائل، وكان سائرهم من بني النضير، فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتب الأوَل، فاسألوهم: أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم، فقالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه. فأنـزل الله فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا 51 أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ۖ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نصِيرًا52 2.
لم يقف الحد عند تأليب يهود للقبائل، بل أقامت معاهدة مع غطفان على أن تكون قوة جيش غطفان في الجيوش المتحدة ستة آلاف مقاتل مقابل إغرائهم بكل تمر خيبر لسنة واحدة جزاء.
فقدمت الجيوش من اتجاهات القبائل جنوبا وشرقا على موعد القضاء على الطائفة المؤمنة بالمدينة التي تجمع حولها جيش عرمرم بِعَدّ الأمس، يضم ما يزيد عن عشرة آلاف مقاتل.
لم يقف المسلمون بقيادة نبيهم عليه أزكى الصلاة والسلام مكتوفي الأيادي أمام هذا التغول الذي أحاط بهم، وهذا المكر الذي بيتته يهود ومن معها من أهل الشرك والمكر، بل أضافت العتاد المادي من خلال حفر الخندق بعد مشورة واتفاق إلى الاستعداد المعنوي من أجل المواجهة الحاسمة التي ردت كيدهم في نحورهم فانقلبوا صاغرين، رغم التأليب والتحالفات ومكر الليل والنهار.
اجتمع الجوع وقلة ذات اليد والخوف من وصول العدو المتربص في أية لحظة على المؤمنين وهم يجدّون، بقيادة نبيهم في حفر الخندق، على بطونهم الحجر من شدة الطوى، لكن الروح المعنوية عالية ترفرف في السماء تستدعي النصر بيقين، وتنتظر من الله المدد وهي تحفر في التراب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرتجز بكلمات تخفيفا وتطمينا للفئة المؤمنة. عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: “رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وهو ينقل التراب حتى وارى التراب شعر صدره، وكان رجلا كثير الشعر، وهو يرتجز برجز عبد الله بن رواحة:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا .. ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا .. وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا .. وإن أرادوا فتنة أبينا
يرفع بها صوته” 3.
ووصف الله تعالى الوضع بدقة الخبير بمن خلق وما يمكن أن يعتلج صدر المرء المتربَّص به من المخاوف، قال تعالى في سورة الأحزاب: إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا 10 هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا 11 وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا 12.
جاؤوهم من كل حدب متحالفين ليجتثوهم من فوق الأرض، ولينتهكوا الأرض والعرض، وليطمسوا كلمة الله ويذلوا جنده وأنى لهم ذلك. جاؤوا كما جاء شركاء اليوم، المتحالفون ضد تلك الفئة الصادقة في بلد الإسراء والقبلة الأولى، يساندهم إعلام الزور، وأبواق الدعاية الكاذبة تبارك سيرهم، جاؤوا ببوارجهم وحاملات طائراتهم وقدهم وقديدهم، سندا لفتاتهم المدللة، وبحماية من المجتمع الدولي وصمت مطبق لحكومات العروبة التي لم تعد تجيد إلا الشجب إن أذن لها به.
ألا إن ملة الكفر واحدة، وسدنة معابد الدجل لا يتغيرون.
لقوا صفا متراصا، البارحة كما اليوم، وجنودا بواسل أحرص على الموت منهم على الحياة، وضعوا أرواحهم فداء لهذا الدين، وتهافتوا حينئذ كما يتهافتون اليوم، من يكون الأسبق إلى السماء حيث وسام الشهادة، ومقعد الصدق عند المليك المقتدر.
هما خياران لا ثالث لهما في معادلة نصرة الدين والدفاع عن الحمى في كل زمان وفي كل مكان: النصر أو الشهادة؛ إذ من سنة الله الكونية أن يتخذ شهداء يكتبون بدمائهم الزكية ملحمة التغيير والنصر للأجيال، ويرتقون قرابين مستحقة لنصر موعود، ويستمرون عبر الأحقاب حجة على المتخاذلين والمثبطين والصامتين والملتفين على كراسي الذل والهوان، المنبطحين لتعاليم سادتهم من خونة الإنسانية والأوطان، ويبقى النصر موعودا متحققا متى توفرت شروطه، وواقعا ننظر إليه رأي العين من خلال الدرس الفلسطيني بقيادة مقاومته الباسلة، والله المستعان.