وثيقة العدل والإحسان عن مدونة الأسرة.. هذه أبرز “الرسائل”

Cover Image for وثيقة العدل والإحسان عن مدونة الأسرة.. هذه أبرز “الرسائل”
نشر بتاريخ

شددت “اللجنة المشتركة للنظر في مدونة الأسرة” التابعة لجماعة العدل والإحسان على أن مقاربة قضايا الأسرة ينبغي أن تتم بعيدا عن كل الضغوطات الأجنبية والإملاءات الخارجية “التي تستهدف تفكيك روابط أسرنا، وتهدد النسيج القيمي والأخلاقي الضامن لتماسك المجتمع واستقراره”. وربطت إنجاح أي تعديل قانوني يحفظ حقوق المواطن ويصون كرامته بضرورة استباق إصلاح البيئة “التي ينخرها الفساد على جميع المستويات”.

الأسرة ليست بِنْيَةً مبتورة يمكن تجاوز اختلالاتها بمعزل عن البناء الكلي للدولة والمجتمع

“اللجنة المشتركة” في وثيقتها التفاعلية مع نقاش مدونة الأسرة، أسمتها “منطلقات مؤسِّسة” نشرناها يوم الخميس 30 نونبر 2023، اعتبرت أن الأسرة ليست بِنْيَةً مبتورة يمكن معالجتها وتجاوز الاختلالات التي أصابتها بمعزل عن البناء الكلي للدولة والمجتمع، وإنما “هي جزء لا يتجزأ من هذه المنظومة العامة، حيث يتكامل أو يتضارب ما هو اجتماعي بما هو سياسي واقتصادي…”.

وذهبت إلى أن هذه الوثيقة هي إسهام جاد إلى جانب باقي الإسهامات للدفع نحو “إصلاح حقيقي شامل، يكون منطلقه إصلاح أحوال الأسرة، وتكون غايته إصلاح الدولة والمجتمع، من خلال رؤية جامعة ومقاربة شاملة تربط أحوال الأسرة المغربية، وبرامج إصلاحها بمختلف الاختلالات التي تشكل عقبات الإصلاح”.

وأشارت في منهجية عرضها لآراء “العدل والإحسان” ومواقفها من الموضوع، إلى أنها اعتمدت مسلك الإيجاز والاختصار مع تجنب الخوض في التفاصيل والأمثلة، مركزة في معالجة قضايا إصلاح المدونة على ثلاثة عناوين أولها “تعديل مدونة الأسرة في المغرب: السياق والدواعي”، ثانيها “منطلقات أساسية لتعديل مدونة الأسرة”، ثالثها “شروط نجاح تعديل مدونة الأسرة”.

تحولات كبيرة تتطلب تشريعات مناسبة.. لكن مواءمتها يتطلب حفظ هوية مجتمع أغلبيته المطلقة مسلمون

جردت “اللجنة المشتركة” في وثيقتها أهم الإصلاحات التي عرفتها المدونة، دون إغفال السياقات المتحكمة التي “تدفع في كل مرة مكونات المجتمع المدني أو بعضا منها إلى الحديث عن ضرورة تعديل مدونة الأسرة وجعله موضوعا يتصدر واجهة النقاش العمومي”.

ومن هذه السياقات ما هو دولي، خاصة توصيات الأمم المتحدة سنة 2020 بعد إطلاق دورة جديدة في الدفاع عن قضايا المساواة تحت شعار “جيل المساواة”، فضلا عن تقرير الكونجرس الأمريكي سنة 2021، والمرتبط بقضايا المرأة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والذي رصد ثلاثة اختلالات بارزة على المغرب معالجتها، والمتمثلة في وجود قوانين تمييزية بين الجنسين، وارتفاع نسب العنف الزوجي، والزواج المبكر.

ومنها ما هو محلي يؤطر ورش إصلاح المدونة وتحكمه منذ انطلاقه دواعٍ سياسية لملاءمة القوانين والتشريعات المغربية مع مقتضيات الاتفاقيات الدولية والوثيقة الدستورية، ودواعٍ اجتماعية مرتبطة بالتحولات الاجتماعية والقيمية التي يعرفها المجتمع المغربي، إضافة إلى الدواعي القانونية المرتبطة بتنزيل المدونة وتفاعلها مع الواقع بكل تعقيداته، سواء ما تعلق بالمساطر أو بالموارد البشرية أو بالاجتهاد القضائي.

وبينما شددت “اللجنة المشتركة” على أن الواقع المعيش يعرف تغيرات كبيرة تجعلنا في حاجة إلى تشريعات تتلاءم مع كل التحولات الطارئة، شددت في المقابل على أن هذا السعي للمواءمة بين متطلبات الواقع ومقاصد التشريع “لا بد أن يستحضر في الوقت نفسه رحى صراع القيم الدائرة، ومطلب حفظ الهوية الدينية والاجتماعية في مجتمع مغربي أغلبيته المطلقة من المسلمين”.

المرجعية الإسلامية.. أول المنطلقات المؤسِّسة لنجاح أي تعديل للمدونة

وعالجت هذه الوثيقة ” قضايا جوهرية”، شكلت ولا تزال نِقاط التباين في النقاش العمومي، من منطلقات ثلاثة أساسية، وبلغة يطبعها “الوضوح والجرأة المسؤولة، والتبرم من الانغلاق والتعصب والإقصاء”.

أول هذه المنطلقات هو المرجعية الإسلامية، الذي وصفته بـ “القاسم المشترك، والمنطلق المؤسِّس، والمسلَّمة التي لا نتصور نجاح أي نقاش عمومي حول تعديل المدونة خارج دائرتها”، مشيرة إلى الدستور المغربي الذي ينص بشكل واضح وصريح على سمو الشريعة على غيرها من المصادر بما في ذلك الاتفاقيات الدولية، وذلك في عدد من المواضع، منها أن “الإسلام دين الدولة” و”أن الهوية المغربية تتميز بتبوؤ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها”.

فالمرجعية الإسلامية في أبعادها وآفاقها، تقول اللجنة المشتركة، ليست محصورة في قانون عقوبات “التشريع الجنائي”، بل هي مشروع نهوض وبناء وحقوق وتكريم للإنسان والشعب والأمة، للمرأة والرجل على حد سواء، بلا تفريق في أصول الحقوق والواجبات، إلا بما خص الله تعالى به كل واحد من أحكام ومسائل تتناسب وطبيعة التكليف وأغراضه ومقاصده.

ومما يميز المرجعية الإسلامية فيما ذكرته الوثيقة، أنها تُعنى بـ”تفعيل مبدأ الشورى”، وأنها رؤية “تستهدي بالتجارب البشرية الراشدة”، كما أنها “ترسم آفاق مشروع النهوض للعدالة الاجتماعية”، إضافة إلى أنها “تنحاز إلى مبدأ استقلالية القضاء العادل النزيه، والتأسيس لهيبة دولة المؤسسات والحقوق والمواطنة”. فضلا عن سعيها إلى “ترجمة قيم الشورى والديموقراطية والحق والعدل والرحمة والإحسان إلى مفاهيم ومناهج وسلوكيات تربوية، ونظم وتشريعات قانونية”.

تحديد مفهوم الحداثة ورهاناتها منطلق ثانٍ للجمع بين الأصالة والحكمة البشرية

أما المنطلق الثاني من منطلقات “وثيقة العدل والإحسان”، فهو مرتبط بالحداثة ومفهومها ورهاناتها، وقد دار حولها خلاف كبير و”أخذ كلُّ متصدٍّ لتعريفها ومُدَّعٍ لتبني مشروعها ما يلائم فنَّه أو علمه أو موقفه الشخصي وآراءه الذاتية”، وأشارت الوثيقة إلى أن أحد اتجاهات الحداثة، “نَصَّبَ نفسَه حاكمًا على التراث واتَّخذ منه عدوًّا؛ فأصبح يكيل له الاتهامات ويعمل على هدمه ونقضه”.

فإذا كانت تجربة الغرب مع الدين إبان العصور الوسطى مخالفة تماما لتجربة الدين في واقع المجتمعات المسلمة، وهو ما يجنبنا إسقاط الأحكام واستنساخ نفس التجارب التاريخية، وجعل التصادم مع الدين وتجاوزه شرطا لتحقيق الحداثة.

وإذا كانت الحكمة البشرية وسيلة للتطور، فإن المجتمعات الإسلامية لا يضرها الانتفاع بمزايا الحداثة التنظيمية والتدبيرية، واهتمامها بالحاضر والمستقبل، وتعظيمها للوقت وقيم التطور والتقدم، مع السعي إلى تجاوز مظاهر العلمنة والعقلانية المتطرفة، تضيف الوثيقة.

التكامل عوض المساواة.. المساواة المطلقة إجحاف في حق المرأة وتضييع لحقوقها حين تشوه خصائص أنوثتها

وتحدثت الوثيقة في ثالث منطلقاتها عن “التكامل عوض المساواة”، وبعد استحضارها للتوجه الأممي والمطالبين بالمساواة، وضحت الوثيقة أن “ظاهر” مطالب الحركات النسوية فيما يتعلق بالمساواة الفعلية في المدونة، يتعدى في طموحها هذه المطالب المرحلية إلى “التَّغيير الاجتماعي والثَّقافي، وتغيير بنَى العلاقات بين الجنسين وصولاً إلى المساواة المطلقة كهدفٍ استراتيجي”.

وهذه الحركات، تضيف الوثيقة “تتبنَّى صراع الجنسين وعداءهما، وتهدف إلى تقديم قراءات جديدةٍ عن الدِّين واللُّغة والتَّاريخ والثَّقافة وعلاقات الجنسين، لنكون بهذا إزاء حركة فكريَّة سياسيَّة اجتماعيَّة متعدِّدة التَّيَّارات، تتَّسم أفكارها بالتَّطرُّف والشُّذوذ”، وذلك يتجلى في طبيعة شعاراتهم ومطالبهم التي فصلت فيها الوثيقة.

وبين المساواة والتكامل، أكدت الوثيقة أن “المساواة المطلقة تجحف بالمرأة نفسها، وتضيع الكثير من حقوقها، حين تشوه خصائص أنوثتها، وتصرفها عن وظائفها الطبيعية، فتختلط عليها الوظائف، وتصبح ملزمة بالإنفاق وتحمل الأعباء التي هي من صميم مسؤوليات الرجل”.

وبما أن الإسلام دين الفطرة، تقول الوثيقة، فإن كلّ ما شهدت فيه الفطرة بالتّساوي بين المسلمين يفرض التّشريع فيه التّساوي بينهم، وكلّ ما شهدت الفطرة بتفاوت البشريّة فيه، فالتّشريع بمعزلٍ عن فرضِ أحكامٍ متساويةٍ فيه. كما أن المساواة في التّشريع أصلٌ لا يتخلّف إلَّا عند وجود مانع.

إعفاء الدولة وعدم تضمين التزاماتها في هذا الإصلاح يحكم عليه لا محالة بالفشل

وفي المحور الثالث من محاور الوثيقة، الذي ضعت فيه شروطها، اعتبرت “اللجنة المشتركة” أن اختزال ورش إصلاح الأسرة في تعديل نص قانوني هو مجرد “مقاربة تجزيئية سطحية”، للتهرب من القضايا الأساسية المسؤولة عما آلت إليه أوضاع الأسرة المغربية.

واشترطت شروطا تراها مهمة من أجل نجاح هذا التعديل أولها “نظام سياسي ديموقراطي قائم على العدالة الاجتماعية”، وهنا أوضحت أهمية هذا النظام الديموقراطي شكلا ومضمونا، وإتاحته الحق لكل الفاعلين في المشاركة في النقاش العمومي حول موضوع الأسرة، باعتباره موضوعا “يحدد هوية المجتمع وحاضره ومستقبله، بغض النظر عن ولائهم أو معارضتهم”.

وتابعت موضحة أن الدولة في ظل نظام ديمقراطي ملزمة بضمان الحد الأدنى للعيش الكريم لجميع المواطنين، وتمتيعهم بحقوقهم المشروعة والمستحقة في ثروات البلاد، وشددت على أن الإصلاح الحقيقي للمدونة “رهين بتحمل الدولة كامل مسؤولياتها في تغطية عجز الأفراد، مما يستدعي ضرورة تخصيص موارد مالية ومؤسسات متخصصة في هذا المجال؛ أما إعفاء الدولة وعدم تضمين التزاماتها في هذا الإصلاح فإنه يحكم عليه لا محالة بالفشل”.

التربية والتعليم وظيفتان متلازمتان غايتهما إعداد الإنسان للاندماج في مجتمعه

والشرط الثاني هو إرساء “نظام تربوي تعليمي أخلاقي”، لاعتبار أن التربية رسالة ومهمة بها تحفظ القيم وتستقيم العلاقات وترتقي المجتمعات. والتربية والتعليم وظيفتان متلازمتان، تستمران مع الإنسان منذ ولادته إلى وفاته، تتداخل فيهما مؤسسات متعددة بدرجات متفاوتة، غايتهما تطوير الأفهام وإعداد الإنسان لحسن التفاعل والاندماج في مجتمعه الذي يعيش فيه تأثرا وتأثيرا.

وقالت وثيقة الجماعة، إن القوانين المؤطرة لأي إصلاح اجتماعي، مهما سمت، فإنها لن تستطيع النفاذ إلى تصويب الإرادات، وتقويم الدوافع، وتحسين العلاقات بكيفية تلقائية وشاملة، موضحة إن التربية والأخلاق والقيم، تبقى من المداخل الأساسية القادرة على اختراق عمق الإنسان وتغييره قبل تعديل سلوكه نحو الخير والفضيلة والصالح العام.

الاجتهاد والقضاء والإعلام… عناوين بارزة يتوقف عليها نجاح إصلاح المدونة

أما الشرط الثالث فهو “اجتهاد مقاصدي منفتح ومؤسساتي جماعي”، إذ إن نجاح إصلاح المدونة يتطلب بالضرورة تبني خطاب ديني يؤمن بالاجتهاد والتجديد “وفق الشروط المطلوبة”، وأشارت إلى أنه لا ينبغي حصر خياراتنا في أحكام قد لا تتناسب ومتغيرات الواقع ومتطلباته، في ظل توفر اجتهادات نصوص وحقائق علمية ومجامع… بينما يمكننا الانفتاح من داخل المرجعية نفسها على مذاهب فقهية مختلفة واجتهادات معتبرة تفي بالغرض وتستجيب لتطلعات العصر. فضلا عن أهمية “الاجتهاد الجماعي”، في عصر تعددت فيه التخصصات في كل العلوم والمجالات وتوسعت، ولم يعد الفقيه وحده قادرا على “استفراغ الوسع لتحصيل ظن بحكم” بمعزل عن استشارة باقي تخصصات عصره في النازلة أو النوازل المعروضة.

ووقفت وثيقة العدل والإحسان في رابع شروطها على أهمية “القضاء الأسري المختص المستقل والنزيه”، حيث إنه في تطبيق أي إصلاح للمدونة تنتصب أمام القضاء عقبات جمة يمكن اختزالها في أربع، هي “قلة الموارد البشرية”، و”ندرة التخصص في مجال الأسرة وقانون الأسرة وعلم النفس الأسري وأساليب الوساطة وتدبير المنازعات”، مع “بطء المساطير المعتمدة وضعف آليات تتبعها”، إضافة إلى “إفلات المفسدين من المحاسبة والعقوبات الزاجرة”.

وفي خامس شروطها، شددت الوثيقة على ضرورة أن يكون “الإعلام في خدمة الأسرة” لأنه من أقوى واجهات التأثير والتوجيه، وتسويق الأفكار، وتعبئة الرأي العام، وتشكيل آرائه حول العديد من القضايا المجتمعية، معتبرة أن علاقة الإعلام بالأسرة تتجاوز التواصل وإيصال المعلومة، إلى ارتباطها بالنسق الفكري والسياسي لوسائل الإعلام التي تروجه داخل المجتمع انطلاقا من قيم ثقافية وتصور للنظام الاجتماعي، وشددت على واجب الإعلام الرسالي الخادم لأخلاق وقيم المجتمع، المكتملة أدواره مع الدور التربوي والأخلاقي المنوط بمؤسسات التربية والتعليم، إذ إنه يبرز النماذج الأسرية الإيجابية، ويرسخ أهمية الأسرة ودورها المركزي في إسعاد الإنسان وتحقيق الأمن والاستقرار والرقي للمجتمع.