في هذه الأيام يشهد العالم حدثين مفصليين لا يجوز أن يُتجاوزا: غزة، التي تكتب بدمائها وبطول صمودها ملحمةً إنسانية كبرى، وأسطول الصمود، الذي تحرّك كخطوة عالمية شاهدة على أن قلوب الأحرار ما زالت تنبض بالحق، رغم ما يتعرض له من إرهابٍ وعدوان من طرف عدوٍ لا يعرف سوى لغة البطش.
لحظة تكشف بوضوح أن الصراع ليس جغرافيًا ولا محليًا، بل هو امتحان للإنسانية كلها: هل تستسلم لطمس الحقيقة وتزييف الوعي، أم تتمسّك بالبصيرة وتقاوم الانحدار؟
وما غزة وأسطولها إلا برهان على أن النور يولد من قلب المحنة، وأن الوعي الحرّ لا يُطفأ مهما تكالب الطغاة وتواطأت قوى التمييع.
فما يجري في غزة ليس معركة حدودٍ أو أرضٍ فحسب، بل مرآة تكشف مقدار الانحدار الإنساني؛ إذ تواطأت قوى كبرى على طمس الحقيقة، وصمتت أخرى عن نصرة المظلوم، فانفضح عطب الضمير العالمي، واتضح كيف يقود انحراف الوعي إلى انحراف الموقف.
وهكذا شُوّهت طبيعة الإنسان حين أُحِيط بسياجٍ من الجهل، وغُمر في وحل السطحية ومستنقعات التمييع، فتوقفت فطرته عن النبض، وبهتت معالمه، وضاع منه المعنى والاتجاه.
لكنّ الله يبعث في كل زمنٍ جيلًا يأبى أن يستسلم للسطحية؛ جيلًا يشقّ لنفسه طريق النور، يثقّف ذاته بجهده، ويغترف من ينابيع العلم الأصيل، فيرتوي بالمعرفة، ويستضيء بالعقل، ويهتدي إلى القيم الصافية حين أظلمت المسالك.
وما إن ينهض هذا الجيل حتى تقفون في وجهه؛ تضيق صدوركم بفكره الحرّ، وتستوحشون من وعيه، وتخشون أن يسقط أقنعتكم الزائفة. تحاربونه لا لأنه أفسد، بل لأنه استعاد إنسانيته، ولأنه حمل في قلبه نورًا يفضح ظلامكم، وصوتًا يذكّر الناس بما أردتم طمسه ونسيانه.
إن وعيه ليس اندفاعًا ولا طيشًا؛ بل هو بصيرة راسخة، وضبط للنفس، وحكمة في المواقف. وعيٌ يبني ولا يهدم، يصلح ولا يفسد، ويضيء الدروب للآخرين بقدر ما يهدي نفسه. إنه وعي ينهض بالمسؤولية، ويستمد قوّته من وضوح الهدف ونقاء الوسيلة.
أما الذين يركبون أمواج العنف، فليسوا من الوعي في شيء؛ إذ يزيدون الجراح اتساعًا، ويشوّهون صورة الإصلاح. وأما الذين يحاولون طمس الحقيقة أو يتغافلون عن المنحدر الذي يواجهه العالم، أو يتجاهلون القمم التي يصعدها المتيقّظون بعلمهم وثباتهم، فهم خاسرون لا محالة، لأنهم اختاروا العيش في ظلمات الوهم، ورضوا لأنفسهم الخذلان.
وفي كل زمانٍ ومكانٍ تتعايش أجيال يقظة وأخرى مغيّبة؛ غير أن الفارق بين هذه الأجيال هو في الإمكانات التي وُضعت بين أيديها، وما هيّأته لها الظروف من وسائل التعلّم والتأثير. ورغم أن جيل الأمس لم يملك إلا القلم والصوت المحدود، فقد شيّد بما توفر له صروحًا من الصمود والبناء، وكتب صفحات مشرقة في تاريخ الأمة. أمّا جيل اليوم، فقد أُتيح له من الأدوات ما يمكّنه من توسيع الأثر، والوصول إلى المعرفة، ونشر الوعي، ومواجهة التحديات بطرائق لم تخطر ببال من سبقوه.
وهكذا يبقى الجيل اليقظ، بما حمل من علمٍ راسخٍ وإيمانٍ صادق، شاهدًا على يقظةٍ لا تنطفئ، وبذرةَ أملٍ في أمّةٍ تنتظر الفجر، مهما طال ليل الظلام، ومهما حاول المفسدون أن يحجبوا شمس الحقيقة؛ فهي سنّة الله الماضية، أن يبعث في كل زمان من يجدد العزم، ويحيي الأمل، ويضيء الطريق، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب: 62].