تزخر كتب السير والأعلام بالكثير من سير الصحابة والصحابيات، وإن المتأمل في سير أمهات المؤمنين بالذات ليجد الكثير من الدروس والعبر والمبادئ المؤصلة للمرأة والمجتنمع وفق الهدي النبوي الشريف، حيث سنقف على نماذج مشرقة وقدوات نيرات في إصلاح النفس وجهاد الشيطان وأهل الأهواء، وبطولة في تربية الابناء، وبطولة في إعطاء الزوج حقه، وبطولة في إعطاء الوالدين حقهما، بطولة في إعطاء ذوي الارحام حقهم وفي إعطاء غير المسلمات حقهن) 1 .
ننطلق للوقوف مع شذرات من حياة السيدة خديجة رضي الله عنها، هذه الذات الإنسانية العظيمة التي مدحها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأجل الأوصاف والنعوت ورفع مقامها إلى الخيرية والكمال الإنساني، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خير نسائها مريم وخير نسائها خديجة” 2 . فقد أثبتت رضي الله عنها بمواقفها الحاسمة في نصرة واحتضان الدعوة وهي في أشد ظروفها، أنها القدوة لكل من يبحث عن معاني الرجولة الأيمانية.
كانت رضي الله عنها تتسم بكمال الفطنة، وجميل التوكل، والرعاية الحانية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن التصرف، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في رواية عند الإمام أحمد: “آمنت بي إذ كفر بي الناس وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس”. ويكفي شرفا هذه الشهادة النبوية العطرة اعترافا بصنيع جميلها.
فلما أشرف عليه السلام على الأربعين حبب إليه الخلو لمناجاة ربه استعدادا للحدث العظيم، وما كانت السيدة خديجة، في وقارها وجلال أمومتها، لتضيق بهذه الخلوة، أو تعكر صفو تأملاته وتفكره في ملكوت الله، بل حاولت ما وسعها الجهد أن تحوطه بالرعاية والهدوء ما أقام في البيت، فإذا انطلق إلى غار حراء ظلت عينها عليه من بعيد وربما أرسلت وراءه من يحرسه ويرعاه) 3 ، فلما كان الوحي وقفت الموقف العظيم السديد واحتضنته الاحتضان الدافئ العبق بالمؤانسة والمواساة، فهتفت بكل ثقة ويقين: “والله لا يخزيك الله أبدا… إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق”، كلمات تبعث بالراحة والطمأنينة عنوانا للنصرة والتضحية والرعاية والوفاء وكل معاني البذل، فجسدت رضي الله عنها مثال الزوجة المؤمنة المناصرة للحق ولرسول الله والمعينة له على تحمل أقسى ضروب الأذى والاصظهاد والاستهزاء والحصار، فنالت رضي الله عنها رضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته وتكريمه ووفائه لذكرها؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله: “إني رزقت حبها” 4 . وفي حديث للسيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم على خديجة حتى ماتت”. وقولها أيضا: “ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكرها وربما ذبح الشاة ثم يقطها أعضاء، ثم يرسل ببعضها في صدائق خديجة” 5 .
لقد أثبتت السيدة خديجة رضي الله عنها بمواقفها الحاسمة في نصرة الدعوة أنها نموذج ملموس للقدوة الحسنة في هذا العصر وغيره من العصور، كما أن دراسة هذه الأعلام اللامعة تبصّر الناشئة بالنماذج التي لها الأثر التربوي الكبير في تقويم السلوك وفي بناء أسر مستقرة على أساس المودة والرحمة.