وأما وقَارُه صلى الله عليه وسلم وصَمتُه وتُؤَدَتُه ومروءته وحسْنُ هَدْيه فحدثنا أبو علي الجيّاني الحافظ إجازةً، وعارضْتُ بكِتَابه؛ قال: حدثنا أبو العباس الدِّلاَئي، أنبأنا أبو ذَر الهَرَوي، أخبرنا أبو عبد الله الورَّاق، حدثنا اللؤلؤيُّ، حدثنا أبو داود، حدثنا عبدُ الرحمن بن سلاَّم، حدثنا حجاج بن محمد، عن عبد الرحمن بن أبي الزِّنَاد عن عُمر بن عبد العزيز بن وُهَيب: سمعتُ خارجةَ بن زَيْد يقول: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْقَر الناسِ في مجلسه، لا يكادُ يُخْرِجُ شيئاً من أطرافه[1].
ورَوَى أبو سَعيد الخُدْري: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في مجلس احْتَبَى بيديه[2]، وكذلك كان أَكْثَرُ جلوسِه لله مُحْتَبِياً.
وعن جابر بن سَمُرة أنه تَربَّع[3]، وربما جلس القُرْفُصاء، وهو في حديث قَيْلَة[4]، وكان كثير السكوتِ لا يتكلم في غير حاجةٍ، يُعْرِضُ عمن تكلَّم بغير جميل، وكان ضَحِكُه تبسُّماً، وكلامُه فَصْلاً، لا فُضُولَ ولا تقصير، وكان ضحكُ أصحابه عنده التبَسُّم، توقيراً له، واقتداء به. مجْلِسُه مجلسُ حِلْمٍ وحَياء، وخَيْرٍ وأمانةٍ، لا تُرْفَعُ فيه الأصواتُ، ولا تُؤْبَنُ فيه الحُرَمُ[5]، إذا تكلَّم أطرق جلساؤه كأَنَّما على رؤوسهم الطَّيْرُ.
وفي صفته: يَخْطُو تَكَفُّؤاً[6]، ويَمْشِي هَوْناً، كأنما يَنْحَطُّ مِنْ صَبَب[7].
وفي الحديث الآخر: إذا مشى مَشَى مجتمعاً، يُعْرَف في مِشْيَتِه أنه غَيْرُ غَرِض ولا وَكِل[8]، أي غير ضَجِر ولا كَسْلانِ.
وقال عبد الله بن مسعود: إنَّ أحسنَ الهَدْي هَدْيُ محمد صلى الله عليه وسلم[9].
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: كان في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم تَرْتيلٌ أو تَرْسيل.
قال ابنُ أبي هَالَة: كان سكوتُه على أربع: على الْحِلْم، والحَذَر، والتقدير، والتفكّر.
قالت عائشة: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يحدِّث حديثاً لو عَدَّهُ العادُّ أحصاه[10].
وكان صلى الله عليه وسلم يحِبُّ الطِّيبَ والرائحةَ الحسنة، ويستعملهما كثيراً، ويحضُّ عليهما، ويقول: حُبِّبَ إليّ من دُنياكم النساء والطيب، وجُعِلت قُرّةُ عيني في الصلاة.
ومن مروءته صلى الله عليه وسلم نَهْيُه عن النَّفْخ في الطعام والشَّرَاب، والأمرُ بالأكْل مِمّا يَلِي[11]، والأمرُ بالسواك، وإِنْقَاء البَرَاجِمِ والرَّوَاجِب[12]، واستعمال خِصَال الفِطْرَة.
من كتاب “الشفا بتعريف حقوق المصطفى” للقاضي عياض رحمه الله.
القسم الأول، الباب الثاني، الصفحات من 110 إلى 112.
[1] – أخرجه أبو داود في المراسيل (505) وضعفه الأستاذ شعيب الأرناؤوط محقق المراسيل.
[2] – أبو داود (4846) وضعفه.
[3] – صحيح مسلم (287/670) وأبو داود (2164).
[4] – أبو داود في سننه (4847).
[5] – لا تؤبن فيه الحرم: فلان يؤبن بكذا: أي يذكر بقبيح، والمراد: أن مجلسه لا يُذكر فيه أحد بسوء، قاله الشمني.
[6] – قوله: (تكفؤا): أي تمايل إلى قدام.
[7] – قوله: (صبب): أي منحدر.
[8] – قوله: (وكل): عاجز يكل أمره إلى غيره.
[9] – أخرجه البخاري (6098، 7277).
[10] – مسلم في صحيحه (2493/71).
[11] – صحيح البخاري (5376، 5377، 5378). ومسلم (2022/108، 109).
[12] – البراجم: رؤوس السلاميات من ظهر الكف إذا قبض القابض كفّه نشرزت وارتفعت. والرواجب: هي ما بين عقد الأصابع من داخل.