وكأني بهم لا يعتبرون…

Cover Image for وكأني بهم لا يعتبرون…
نشر بتاريخ

يسجنون، يعذبون، ينكلون، يضربون، يحاصرون، يضيقون في الأرزاق، ويتمنون قطع الهواء من الفضاء والماء من السماء، يمنعون الاعتكاف والعبادة ويشيعون الاستهتار والبلادة، شعارهم: إنهم شرذمة لنا غائظون، فلا حرج إن أفسدتم الأبناء واستباحت سياحتكم الأعراض، لا بأس إن غررتم بالمال والثروة والحظوة والمكانة…، لا ضير إن أفسدتم عيشهم، ومزقتم عشهم ولو بزائف الاتهامات، وألّبتم ضدهم الشعب بأذل الافتراءات، فلا مكان لهم في بلد الأمن والإيمان، وجمال البحر والجبال والثلوج والكثبان. لا مكان لهم في جغرافية الوطن ولا في تاريخ السلف ولا في مستقبل الخلف، ألم نقل إ”نهم شرذمة لنا غائظون”؟ برسائلهم الوضاحة، ومواعظهم البواحة، ومجالسهم الفواحة، وأخوتهم الطاهرة، ومسيراتهم الناصرة التي يأتونها من كل حدب ينسلون، فيعكرون صفو العاصمة الآمنة، ويظهرون سوءات الحكومات النائمة، ويتكتلون كالجسد الواحد، ويجتمعون على قلب رجل واحد، كأنهم النمل في نظام مملكته، والنحل في جدية عماله.

لا نريدهم ولا نقبل منهم صرفا ولا عدلا. لماذا هم أحياء ضدا عن إرادتنا، واعون بما نداري به رعايانا، فلنضيق عليهم الخناق لعلهم يرعوون، ونادُوا بفرمناننا هذا في المدن والقرى والساحات العامة والسجون، فإنّ صُحبتهم ذنب، والتعامل معهم رذيلة، والجلوس إليهم جريمة يعاقب عليها القانون.

وكأني بالظالمين لا يعتبرون…

فهم يفتنون في العام المرة والمرتين وربما أكثر لكنهم لا يرعوون.. فتسير بفضائحهم الركبان لكنهم لا يتقون.

وكأني بهم لا يعتبرون، فجرائر المظالم الخائبة مخزية والله تعالى الحق يقسم للمظلوم: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين 1 وتلك الأيام نداولها بين الناس 2 والعاقبة للمتقين.

وكأني بهم لا يعتبرون، فقد ضيقوا ولم يزد التضييق الصف إلا قوة فضلا من الله ومنة ولم يزد الأعضاء إلا صلابة فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض 3 .

وكأني بهم لا يعتبرون من بلوغ البلاد الدرك في كل القطاعات الحيوية، والأزمة الاجتماعية الخانقة لا تزداد إلا سوءا، والشعب لا يزداد إلا احتقانا، ومعدل الفقر في صعود والتنمية في هبوط، والفئة المنعمة المستحوذة المستغلة للبلاد والعباد لا تكترث، وهي في استعداد دائم ليوم تزِف فيه الآزفة، لتجد نفسها رحلت لملاذها الآمن في سويسرا أو باقي أرض الله، أليست أرض الله واسعة؟

وكأني بهم لا يعتبرون من تعليم تدنى، وغش تنامى، وفقر مدقع أصاب الله به العباد ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض 4 فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا 5 .

وكأني بهم لا يعتبرون، من أنظمة الخزي والبوار كيف تتهاوى وينصر الله الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ويذل الظالمة على إسلامها، فبالعدل أقام الله العدلُ السماوات والأرض، وإذا كان للباطل جولة فإن للحق صولة إلى أن تقوم الساعة.

وكأني بهم لا يعتبرون، وما زودنا الله المنان بالعقول الراجحة المفكرة إلا لنعتبر ونختار سبل الرشاد، ولو كان حراكنا هذيانا على غير مثال لقضى وانتهى، ولكنه الرغبة في تجديد ما اندرس من الدين، وإحياء ما تنوسي من شرائعه على منهاج النبوة الخالد، إنها الرغبة في الاجتماع على الله لتحقيق موعود الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي ننظر إليه قادما في الأفق بيقين الذي لا يرتاب: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا 6 “ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت” 7 .

إنها الرغبة في تصحيح المسار والتحرر والانعتاق، والبحث عن المخرج الرفيق للأزمات الراهنة التي تحتاج لصدق الذمة، وعلو الهمة، وتخليص الوجهة لله تعالى، واستشعار عمق المسؤولية أمام الله الرقيب وأمام الشعب.

كيف نصلح تعليمنا ونرشد سياسات الدولة ونضمن نزاهة الانتخابات ونتعهد بالقضاء على الفقر الذي كاد أن يكون كفرا؟

كيف نضمن حرية الاختيار، ونفصل السلط، وننصب حكومات حقيقية فاعلة لا مفتعلة؟

كيف نؤسس لدستور بإرادة الشعب وبمشورته يخضع الجميع لمقتضياته طائعا مختارا؟

كيف نؤسس لدولة الحق والقانون التي يقف الناس أمامها سواسية كأسنان المشط لا تحيز ولا محاباة؟

كيف نتوب وندعو الناس إلى التوبة ونسمح بذلك ليتوب الله علينا ويكون الله مقصدنا ومطلبنا ومنتهى آمالنا؟

كيف نضمد جراحات اليتامى والأيامى والثكالى؟ كيف نحمي أجساد فتياتنا المغررات؟

كيف نوقف طوفان العقول الهاربة من حضن الوطن بحثا عن مجالات للتفكير أرحب؟ كيف نمنع مد الشباب اليائس المرتمي في أفواه سمك القرش لقمة سائغة، أو في أحضان الإرهاب الذي يعده الجنة القريبة، والحورية البكر البديعة، التي لا يفصل بينه وبينها إلا تفجير الجسد الغض الفتي تحت أية راية عمية في سوريا الجريحة أو العراق الشهيد أو أي ربع من بلادنا الذبيحة.

إنها كلمة الفصل التي أكدتها سنن الله القائمة، إما أن نحيا لله وبالله وعلى مراد الله، وإما هو الطوفان القادم الذي لا يجامل زيدا ولا عمروا.


[1] جديث قدسي أخرجه الترمذي في جامعه عن عبد الرحمن بن صخر، ونصه: قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه سبحانه: ” ” ثلاث لا ترد دعوتهم، الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم، فإنها ترفع فوق الغمام، فينظر الرب جل جلاله فيقول: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين “.
[2] سورة آل عمران، الآية 140.
[3] سورة الرعد، الآية 17.
[4] سورة الأعراف، الآية 96.
[5] سورة نوح، الآيات من 10 إل 12.
[6] سورة النور، الآية 23.
[7] أخرجه الإمام أحمد رحمه الله عن النعمان بن بشير رضي الله عنه الله.