يا معشر الشباب

Cover Image for يا معشر الشباب
نشر بتاريخ

تعتبر مرحلة الشباب من أهم مراحل العمر قوة كما قال الله عز وجل في محكم آياته اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً  يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ  وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِير (الروم، 54). تكمن القوة في هذه المرحلة في العقل والجسم، لأن الله سبحانه وتعالى اختار أن يكون أوج عطاء الإنسان في شبابه. فكيف نستغل ما منحنا الله إياه من نضج وطاقة؟ بل السؤال الأهم كيف نصل إلى الوعي به؟

عندما يصل الشاب المسلم أو الشابة المسلمة إلى المرحلة التي يتفطنان فيها أن قوة الأمة تكمن فيهما، فسيدركان أننا لا “نتعبد الله تعالى على شرط التمكين والظهور في الأرض، وإن كنا نسعى لهذا بكل سبيل، لكننا نتعبده بالأصالة بأداء ما علينا، والقيام بحقه تعالى في كل الأزمنة، وأعظم ما ينبغي اغتنامه في هذه الأزمنة أن يسلك المرء سبيل الظاهرين على الحق الذين لا يضرهم من خذلهم، وأن يعيش في متن الحياة لا في حواشيها وأطرافها، وأن يخلع رداء اليأس ويسلك طريق الجد” [1].

هل السعي وراء وظيفة أو اقتناء سيارة أو الحصول على شهادة جامعية هي غاية الحياة؟ هل خلقنا لهذا فقط؟ هل كرمنا الله سبحانه وتعالى على باقي الخلق بالعقل لأجل أغراض دنيوية محضة، أم أن لوجودنا على هذه الأرض سبب أعظم؟ الجواب نجده في الآية الكريمة: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4) لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (5) أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (6) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُّبَدًا (7) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (8) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (9) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (10) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (11) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (البلد، 4 – 11). الحياة اقتحام للعقبة تلو العقبة.

يجب أن نكون ممن قالت فيهم الأرض مخاطبة الشاعر:

أُبَارِكُ في النَّاسِ أَهْلَ الطُّمُوحِ ** وَمَنْ يَسْتَلِـذُّ رُكُوبَ الخَطَـر
وأَلْعَنُ مَنْ لا يُمَاشِي الزَّمَـانَ ** وَيَقْنَعُ بِالعَيْـشِ عَيْشِ الحَجَر
هُوَ الكَوْنُ حَيٌّ، يُحِـبُّ الحَيَاةَ ** وَيَحْتَقِرُ الْمَيْتَ مَهْمَا كَـبُر [2]

فلماذا نقنع بالعيش تحت الحجر ما دامت عندنا القوة لرفعه والوقوف فوقه.

غير أنه علينا أن نخطط بدقة لكل خطوة نخطوها، ونوفر لها أسباب النجاح، ولا نستسلم لأول فشل يصادفنا، ونعمل بقول الشاعر:

إذَا مَا طَمَحْـتُ إلِـى غَـايَةٍ ** رَكِبْتُ الْمُنَى وَنَسِيتُ الحَذَر
وَلَمْ أَتَجَنَّبْ وُعُـورَ الشِّعَـابِ ** وَلا كُبَّـةَ اللَّهَـبِ المُسْتَعِـر
وَمَنْ لا يُحِبّ صُعُودَ الجِبَـالِ ** يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَـر [3]

“يا معشر الشباب”؛ قالها عليه أفضل الصلاة والسلام مخاطبا جيل مستقبل الإسلام، ذلك الجيل الذي كان المثل الأعلى في الشجاعة والجسارة والعطاء والتضحية بالنفس، والذي جاهد ورفع راية الْإسلام ونصر النبي الكريم؛ “نصرت بالشباب”.

جاء الْإسلام ليعطي للشباب معنى وغاية، ليخرجهم من العمل لشهوة الدنيا وهواها إلى طريق الله ودفء الإيمان، وقد أدرك الصحابة الشباب تلك الغاية، ونهضوا بأمتهم وخدموا الإنسان والإنسانية، وبالعلم والعمل نشروا رسالة الله في كل البقاع.

أننسى جعفر بن أبي طالب الذي أسلم وهو في الحادية والعشرين من عمره، وترأس وفد المسلمين في الحبشة، وكانت حكمته سببا مباشراً في استقرار المهاجرين هناك، وما إن قدم حتى فرح النبي صلى الله عليه وسلم بمقدمه قائلاً: “والله ما أدري بأيهما أفرح؟ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر”.

أم ننسى مصعب بن عمير؛ فتى قريش المترف، الذي عانق الدعوة في بداياتها وهاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى، ولما قدم أرسله النبي لأهل المدينة يعلمهم، فكان خير سفير. ثم حمل اللواء يوم “بدر” ويوم “أحد” فلقي الله فيه شهيداً، فتلا فيه النبي قوله تعالى: مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ  فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ  وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (الأحزاب، 23).

وزيد بن ثابت الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن إحدى عشرة سنة أن يتعلم لغة اليهود العبرية، إذ قال: “أمرَني رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ أن أتعلَّمَ لَهُ كتابِ يَهودَ، قالَ: إنِّي واللَّهِ ما آمَنُ يَهودَ علَى كتابي، قالَ: فما مرَّ بي نِصفُ شَهْرٍ حتَّى تعلَّمتُهُ لَهُ، قالَ: فلمَّا تَعلَّمتُهُ كانَ إذا كتبَ إلى يَهودَ كتبتُ إليهِم، وإذا كتَبوا إليهِ قرأتُ لَهُ كتابَهُم” [4]. فاحتاج خمسة عشر يوما فقط ليتقن لغة اليهود قراءة وكتابة.

ولا يخفى علينا “صقر قريش” عبد الرحمن الداخل الذي أعاد المجد وأسس الدولة الأموية في الأندلس وهو ذو الخمسة والعشرين سنة، ولم يسانده جيش، ولم تدعمه قوة، بل بإرادته وإيمانه وحسن تدبيره بلغ ما بلغ.

ولا قطز؛ ابن التاسعة والثلاثين، صاحب صيحة “وإسلاماه” الشهيرة، والتي رد فيها المغول وهزمهم أشد هزيمة في معركة “عين جالوت”.

ولا العالم سيبويه؛ عالم العربية الأكبر الذي مات وقد جاوز الثلاثين بقليل، وهو الذي جمع أشتات علم الخليل بن أحمد وخرج على الأمة بكتابه “الكتاب” الذي يعد عمدة العربية.

وممن فارقوا الحياة في شبابهم في عصرنا بعدما عملوا على استغلاله؛ الشاعر أبو القاسم الشابي الذي توفي وهو ابن الخامسة والعشرين، الشابي الذي كان ينبض قلبه بحب الوطن والتغيير أراد “الوصول بالشعرية إلى أعلى درجات التنظير بالشرح والبيان والتعليل حتى تترسخ القيم البطولية في النفوس وتدخل إلى قلوب الشباب الناهضة وتحقق الاستنارة في العقول وتخاطب فيهم روح الفتوة والحماسة ويسلك بهم سبيل إرادة الحياة” [5].

وهناك الكثير من الشباب المسلم الذي أدرك معنى وجوده وعمل على تحقيق غايته لا الدنيوية بل الكونية، من أمثال نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي ويوسف بن تاشفين ومحمد الفاتح.. الذين كانوا قادة عظماء وهم في أوج شبابهم.

“إِنَّهمْ فِتْيَةٌ آمَنوا بِرَبهِمْ وَزِدْنَاهمْ هدًى” (الكهف، 13). فإذا؛ بالتربية، والعلم، والعمل، والصحبة، وممارسة أنشطة ترفيهية مختلفة.. يتخرج شباب متكامل، قادر على استيعاب دوره في المجتمع وخدمة أمته والنهوض بها.

إن إرادة الشباب وطاقته هي الأساس والمحرك، ولكن يجب أن يكون هناك أيضا احتضان وتقويم وتهييء لمتطلبات هذه الطاقة.


[1] محمد أحمد عزب، مقتطف من مقال: كيف نجحت الحضارة الإسلامية في توظيف شبابها؟

https://mugtama.com/ntellectual/item/116273-2020-12-26-12-23-49.html

[2] أبو القاسم الشابي، قصيدة: “إرادة الحياة”.

[3] نفسه.

[4] صحيح الترمذي، 2715.

[5] زهير الخويلدي، من مقال: أبو القاسم الشابي بين الوطن والأمة.

https://www.diwanalarab.com/أبو-القاسم-الشابي