قال الله تعالى في الكتاب العزيز: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (آل عمران: 146). وفي رواية ورش رحمه الله: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قُتِل مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ.
في الروايتين معا أن الأنبياء في السنة قد يقودون المعركة بأنفسهم عليهم السلام، وقد يقتلون شهداء في سبيل الله، وقد تستشهد معهم كوكبة من القادة الأنصار، وقد يستشهد النبي عليه السلام ويبقى بعده القادة والأعضاء المجاهدون في الصفوف. وفي جميع الحالات وفي تربية الإسلام والإيمان والإحسان في ديننا، فإن صفوف الجند المقاوم والمجاهد لا تعرف بعد استشهاد القادة وهنا ولا استكانة للعدو، بل العكس تماما هو الذي يحصل، أن يزداد جند الإيمان ثباتا ويقينا وصلابة في مواجهتهم للباطل بسبب ما رأوه من تقدم القادة للصفوف وبذلهم أرواحهم في سبيل الله والوطن والمستضعفين، وذلك قوله تعالى: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ.
كذلك تأتيهم هذه القوة الزائدة بإذن الله إلى قوتهم التي منّ الله بها عليهم سابقا، من يقينهم في مآل المجاهدين الصادقين بعد الاستشهاد بإذن الله إلى جنات النعيم والخلد، وهم يستشعرون كما صور لنا القرآن الكريم حال الشهداء فرحين مستبشرين عند ربهم، فيغبط الأحياء في ديننا ومنهاجنا الأموات من المجاهدين الصادقين على حسن خاتمتهم، ونيلهم بإذن الله هذه المنزلة العظيمة من الفرح والاستبشار باللاحقين؛ ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولعلمهم أن لحظة فرح في الآخرة عند لقاء الله تعالى لا يعادلها زمن فرح الناس في الدنيا بأكملها! قال الله تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (آل عمران: 170-169).
بعد هذا التقرير الشرعي الإيماني اليقيني نعود لاستشهاد القائد الصبار الشكور يحيى السنوار رحمه الله (ولا نزكي على الله أحدا)، لنسجل المواقف والعبر التالية:
1- استشهد رحمه الله على نهج الأنبياء المجاهدين الشهداء عليهم الصلاة والسلام متقدما للصفوف؛ وهذه أبلغ وأعظم قدوة قد يقتدي بها القائد المؤمن المجاهد الرسل عليهم الصلاة والسلام. قال تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (الأحزاب: 21).
وأكيد ستظهر في يوم ما بإذن الله مقاطع مصورة تبين لفلسطين وللأمة وللعالم تقدم هذا القائد للصفوف ومناولته للأعداء، لأن الراجح، كما ظهر من طريقة استشهاده وطريقة تسلحه، أنه دأب، ومنذ 7 أكتوبر، على الحضور في الخطوط الأمامية مع المقاومين.
2- حتى والمؤمن في ساحة الجهاد والمقاومة يأخذ بسنة الحيطة والحذر، لكنه يعلم يقينا أن الله سبحانه وتعالى لن يتوفى نفسا إلا إذا استوفت أجلها، وأنه لا يغني حذر من قدر، وأن الموت في سبيل الله للمؤمن غاية المنى.
3- من رحمة الله العظيمة بالقائد يحيى السنوار رحمه الله أن قدر سبحانه ظهور طريقة استشهاده الشجاعة على أيدي الأعداء أنفسهم؛ عندما بادروا إلى نشر صور استشهاده في مكانه بالضبط، وانتشرت هذه الصور في الإعلام ضدا على أي مكر للقادة الصهاينة الذين حرمهم الله من إخراج أي سيناريو آخر لاستشهاده، كنقل جثمانه لنفق مثلا وإظهار جندهم وهم يقتحمون النفق.. الخ.
4- وجب الاعتبار بتوفيق الله تعالى لهذا الرجل المغوار رحمه الله في استثمار الأعمار في طاعة الله تعالى إلى أبلغ حد ممكن. فقد قضى رحمه الله 23 عاما في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وخرج سنة 2011، ومنذئذ إلى لحظة استشهاده رحمه الله، وفي هذه المدة القصيرة نسبيا (13 سنة) أسدى للدعوة وللمقاومة أعمالا جليلة سيذكرها الناس جيلا بعد جيل، في إعداد العدة والرجال والعزائم والإرادات والإقبال على منازلة العدو دون خوف أو ملل أو تراجع. وهذه لعمري عبرة عظيمة ليس للمجاهدين فقط لكن للدعاة الصادقين في كل مكان أن يسألوا أنفسهم ما فعلوا ببنك أعمارهم الوافر الذي يفوق كثيرا هذا العمر الذي قضاه هذا الرجل في خدمة الحق والدفاع عنه.
5- ترعرع القائد يحيى السنوار في بيئة شبابية طلابية إيمانية إحسانية، منذ صغره وإلى أن دخل السجن في سن 26 من عمره، وتربى على خصال قوة الإيمان والثبات واليقين التي تشربها في أحضان الصحبة والجماعة من رعيل مرب مؤمن محتضن مجاهد قدوة. وهذه عبرة للشباب المؤمن من وجوب الاغتراف من صحبة الصالحين المربين العاملين، المقبلين غير المُدْبِرين.
6- انهارت الرواية الإسرائيلية تماما وهي تروج عاما كاملا أن القائد السنوار كان هاربا ومتخفيا، وظهر تهافت دعايتها المغرضة عندما ظهر السنوار رحمه الله مقبلا على الجهاد والفداء ومنازلة العدو كباقي أبناء شعبه المقاوم غير متستر بمدنيين أو بأسرى إسرائيليين.
7- كما ظهر أيضا الإخفاق الجلي لمخابرات العدو الصهيوني الذي آزرته أعتى مخابرات العالم الغربي لتقدم لها المعلومات عن مكان السنوار رحمه الله وهو طيلة عام كامل ينازلها في الجبهات الأمامية، ولم تستطع الظفر إلا بجثمانه في مواجهة الشهامة والكرامة حين قدر الله أن يلحق بربه شهيدا حيا فرحا مسرورا مستبشرا بإذن الله.
8- صورة السنوار رحمه الله بالطريقة التي استشهد بها عند شعب فلسطين وعند شعوب الأمة العربية والإسلامية وعند أحرار العالم؛ صورة القائد البطل المجاهد الملهم للأجيال الحالية والمقبلة، والقاهر للاحتلال والقاهر لأعتى قوى الظلم في عالمنا المعاصر، بصبره وجٓلَده، وحرصه إلى آخر رمق من حياته في تقدم الصفوف، وتحدي الصعاب، والتوكل الصادق على الله تعالى بأن ما أصابه ما كان ليخطئه وما أخطأه ما كان ليصيبه، وأنه عندما أذن الله بإتمامه لأداء رسالة الجهاد والمقاومة حل الأجل وارتقت الروح إلى بارئها راضية مرضية بإذن الله تعالى.
9- السادة العلماء في الأمة لهم مهمات جسام فيما يجري من أحداث في غزة وفلسطين ولبنان، وهم كذلك أولى بالاعتبار من صدق هذا الرجل رحمه الله وإقدامه وبذله كل ما يملك في سبيل الله تعالى، فهل تستنهض هاته الموتة العزيزة المعزة الرفيعة غيرتهم عن دين الله وعن حرمات الله التي تداس في أوطانهم؟ وقد لا يكون المطلوب منهم في كثير من الأحيان إلا الجهر بكلمة الحق وتقدم صفوف الذود عن محارم الله وعن حقوق العباد، وإنها لمسؤولية عظيمة سيسأل الإنسان عنها.
رحم الله السنوار، وكل القادة الشهداء، وشهداء الأمة جميعا.
اللهم بارك عمل المقاومة وعجل بالفتح المبين.
ولا نامت أعين الجبناء.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه من النبيئين والصالحين العاملين.
والحمد لله رب العالمين.
محمد حمداوي – الرباط
14 ربيع الآخر 1446/18 أكتوبر 2024