لقد فاضل الله عز وجل بين الشهور والأيام والساعات كما فاضل بين الأماكن والبقاع.
ومن خصوصية المكان إلى خصوصية الزمان تُضاعف الأجور وتُرفع الدرجات وتتشوق النفوس إلى فضل الله وعطائه ورحماته.
وها هي عشر ذي الحجة قد لملمت ساعاتها المباركة، وأتمت نفحاتها العطرة، وشارفت على الرحيل، واستعدت للختم وختامها مسك؛ إنه اليوم العاشر من ذي الحجة، وما أدراك ما اليوم العاشر!
إنه يوم عيد الأضحى المبارك، وهو ثاني أعياد المسلمين بعد عيد الفطر العظيم. روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: “قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال عليه الصلاة والسلام: “إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر” (رواه أبو داود في سننه).
والعيد من خصائص هذه الأمة، وهو من شعائر الإسلام الكبرى التي يجب العناية بها وتعظيمها لقول المولى عز وجل: ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ (الحج، 32).
وإذا كان عيد الفطر مرتبط بعبادة الصوم حيث إنه يعقب شهر رمضان المبارك، فإن عيد الأضحى مرتبط بمناسك الحج حيث يقع في شهر ذي الحجة في العشر الأوائل منه؛ وهي أفضل أيام السنة على الإطلاق، وذلك لما يجتمع فيها من أمهات الطاعات وأنواع العبادات؛ من صلاة وصوم وصدقة وحج ونسك..
وإذا كانت مدة عيد الفطر هي يوم واحد فقط، فإن مدة عيد الأضحى هي أربعة أيام؛ يوم النحر ومعه أيام التشريق وهي ثلاثة أيام. قال الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه: “أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله” (رواه مسلم). وقال أيضا: “يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب” (رواه أبو داود والترمذي والنسائي).
وهكذا يجتمع للمؤمنين في أيام التشريق نعيم أبدانهم بالأكل والشرب، ونعيم قلوبهم بالذكر والشكر، وبذلك تتم النعمة ويكتمل الفضل، فلله الحمد والمنة.
ويُعد يوم عيد الأضحى المبارك أفضل الأيام عند الله، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “أفضل الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر” (رواه أبو داود). ويوم القر هو يوم الحادي عشر من ذي الحجة حيث يستقر الحجاج في منى.
كما يُعد عيد الأضحى الجليل ذكرى عظيمة تذكرنا بقصة سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، وما فيها من معاني التضحية والتصديق والتسليم والبر والإحسان واليقين في الله..
وقد أقسم المولى سبحانه بهذا اليوم المبارك العظيم في كتابه العزيز فقال: وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ (الفجر، 3).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الشفع يوم الأضحى والوتر يوم عرفة.
ويسمى يوم عيد الأضحى بيوم الحج الأكبر مصداقا لقول المولى عز وجل: وَأَذَٰنٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦٓ إِلَى ٱلنَّاسِ يَوْمَ ٱلْحَجِّ ٱلْأَكْبَرِ (التوبة، 3).
وقد أجمع فقهاء المذاهب الأربعة على أن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر، وسمي كذلك للتمييز بينه وبين الحج الأصغر وهو العمرة عند الجمهور.
وقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فيها فقال: أي يوم هذا؟؟ قالوا: يوم النحر، فقال: “هذا يوم الحج الأكبر” (أخرجه أبو داود في سننه).
وبالإضافة إلى تسمية اليوم بعيد الأضحى ويوم الحج الأكبر هناك تسميات أخرى لهذا اليوم المبارك، تختلف باختلاف الدول والأمصار، ومنها: العيد الكبير، عيد الحجاج، عيد القربان، يوم الفداء.. وغيرها.
هو إذن يوم خير وبركة، وفرح وسعادة، وتقارب ومودة، وبر وإحسان ورحمة، وتفقد لأحوال الأهل والأحباب والأقارب..
علينا أن نتقرب فيه إلى المولى عز وجل بأداء الطاعات، والالتزام بالأوامر، وتجنب النواهي، والابتعاد عن الغفلة والمعاصي..
فيه يحنو القوي على الضعيف، والغني على الفقير، ويصير المسلمون جسدا واحدا متراحمين.
كما أن لهذا اليوم المبارك العظيم أحكام وآداب يجب مراعاتها ومنها:
* استحباب الغسل والتطيب ولبس الجديد من غير إسراف وتكبر.
* أداء صلاة العيد جماعة، والسنة أن تكون في مصلى العيد. ويستحب للمؤمن أن يذهب من طريق ويرجع من آخر..
* كما يستحب التهنئة بالعيد لما روي عن جبير بن نفير، قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: “تقبل الله منا ومنك” (قال ابن حجر: إسناده حسن).
ووقت التهنئة بعد أداء صلاة العيد كما كان يفعل الصحابة رضوان الله عليهم. وقد يحل الهاتف في عصرنا هذا محل الاتصال المباشر في التهنئة إن وجد مانع يحول دون اللقاء.
* ومن الأعمال الجليلة أيضا نحر الأضحية بعد الصلاة، مصداقا لقول المولى عز وجل: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (الكوثر، 2).
وقال صلى الله عليه وسلم وهو يخطب يوم العيد: “إن أول ما نبدأ من يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل فقد أصاب سنتنا” (رواه البخاري).
* كما يُستحب إظهار البشر والسرور وصلة الأرحام ونبذ الشحناء والخلاف، ومسامحة الخلق والعفو عنهم، والتوسعة على الوالدين والزوجة والعيال وإدخال السرور عليهم..
* ولا بأس باللعب واللهو المباح لأن في ديننا فسحة وتيسير.
وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم لوفد الحبشة أن يستعرضوا ويرقصوا بحرابهم وأسلحتهم في المسجد، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تنظر إليهم والنبي يسترها ويقول: “دونكم يا بني أرفدة، لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني بعثت بالحنيفية السمحة” (صححه الألباني).
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه دخل عليها وعندها جاريتان في أيامِ منى، تدفِّفانِ وتضربانِ، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ متغشٍّ بثوبه، فانتهرهما أبو بكرٍ، فكشف النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عن وجهه، فقال: “دعهما يا أبا بكرٍ، فإنها أيامُ عيدٍ” (رواه البخاري).
* ويُستحب التكبير عقب الصلوات الخمس، ويبدأ ذلك من فجر يوم عرفة إلى اليوم الثالث من أيام التشريق وهو الرابع من أيام العيد. وصيغته: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
ووسط كل هذا لا يجب أن ننسى أن هناك إخوة لنا في الدين والعروبة والإنسانية يقبعون خلف زنازين الطغاة، ومنهم مطاردون في الأمصار، وغرباء في المنافي ومخيمات اللجوء.. فلا ننسى الدعاء لهم، والإحساس بمعاناتهم، والتهمم بهمومهم.. فمن لم يهتم لأمرهم فليس من أمة الحبيب عليه الصلاة والسلام.
نسأل الله أن لا يحرم أحدا من بهجة العيد وسعادته وأجره، وأن يمن علينا وعليكم بقبول الطاعات وكشف الكربات وغفران الزلات، وعيدكم مبارك سعيد.