استيقظت سعاد على صوت المنبه كعادتها كل يوم فجرا.. وما إن انتهت من أداء صلاتها وأذكارها، حتى داعبها النعاس، فقررت أخذ غفوة قصيرة.
إنه يوم السبت، وهو يوم عطلتها، فلا بأس أن تخلد للراحة قليلا.. هذا ما فَكَّرَتْ به.. وقبل أن تتوجه لفراشها فتحت هاتفها، وسرعان ما تلقفتها أخبار عجيبة غريبة، لم تسمع مثلها أبدا..
هالها منظر الصور ولم تصدق ما رأته عيناها، فأسرعت لفتح التلفاز علّها تطمئن نفسها وبالها..
نعم.. كل ما شاهدته حقيقة، إنه سبت مبارك..
تتراقص أمامها صور الأسرى، وكَمُّ الدمار وعمق الضربات في حدث لا مسبوق.. وتابعت كباقي الناس مشهدا ليس كبقية المشاهد ولم تُصَدّق -كغيرها- ما رأته عيناها من ضربات موجعة سددتها المقاومة، وأصابت العدو في مقتل..
تعددت التحليلات والتوقعات تجاه ردات فعل العدو، واستبق الناس في مخيلاتهم انتقامه العنيف، وردود فعله.. وتخلي العديد من الأنظمة عن القضية، خاصة بعد أن وضعوا أيديهم بيد العدو بدعوى مصالح مشتركة وغيرها من المبررات الواهية..
فئة كبرى تَمَلَّصَت وتهربت وتراجعت.. وبقيت الشعوب وحدها في الساحات تشجب وتندد وتناضل..
“سعاد” هي واحدة من أبناء هذا الجيل الذي تربى على حب القضية، بدءًا من ساحات المدارس والثانويات، وانتهاء بما تلقته على يد بعض المدرسين والأساتذة الذين كانت لهم مبادئ وقيم مثلى يزرعونها في صدور تلامذتهم..
عايشت نضالات الطلبة بالساحة الجامعية إبان الانتفاضة الأولى والثانية.. وتابعت طوال مراحل حياتها تطور القضية ومعاناة الشعب الفلسطيني، ونشأة حركة المقاومة الإسلامية حماس وباقي حركات المقاومة الفلسطينية.
لم تحس يوما أنها غريبة عما يقع هناك.. ولم تألو جهدا للدفاع -وفق إمكانياتها وظروفها-عن القضية، لأنها تعتبرها كغيرها من الأحرار قضية مقدسة إنسانية عادلة..
منذ السابع من أكتوبر الماضي، وهي تعود بعد يوم شاق من العمل كمحاسبة في شركة، لتشارك مساء في وقفة أو مسيرة تضامنية، وغالبا ما تصحب معها أبناءها، كتعبير تضامني تراه أضعف الايمان لمشاركة الشعب الغزاوي مصابه..
لم تكن “سعاد” تمنّ بذلك، ولا تحسبه شيئا يُذكر، ولا ترى أن تضحيتها بعطلة الأحد في سبيل مسيرة تضامنية، تدعو إليها “الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع” إنجاز يستحق الذكر، ولطالما اعتبرته أقل من الواجب..
سنة كاملة بفصولها الأربعة ومشاهد الدمار والتقتيل والإبادة واستهداف المواقع المدنية تلف الشاشات..
كانت تحس بالألم، وبخيبات الأمل كلما رأت جموع الناس المتفرجة على المسيرات وهي تجوب الشوارع.. وتنفرج أساريرها عندما تراهم ينضمون ويشاركون ويشجبون. وفي لحظات كثيرة تمنّت أن يصل إحساسها الطاغي بالألم إلى كل الناس.. ثم سرعان ما أدركت أن القليل فقط من يصمد في وجه الطغيان..
تتراءى أمام عينها قوافل الشهداء وهي تمضي.. وتتمثل لها صور الثبات والصمود والصبر..
تتساءل عن سر اليقين لدى الأمهات؟ ويتجدد عندها الأمل وهي ترى الفرحة الممزوجة بالدم والرماد والغبار..
ترى أتراحهم وأفراحهم سيان.. وتأبى إلا أن تُدَوِّن كل يوم مشهدا لا يمكن لذاكرتها محوه من جبين الزمان..
تتصدى “سعاد” للاعتراضات.. للتساؤلات .. للرفض وللكثير من الاستغراب من مواقفها المساندة للقضية، وكأن الكثير يستكثر هذا التضامن المطلق ويرون الاكتفاء بالقضايا المعيشية والداخلية أولى بذلك.. لدرجة أنها عاشت معاناة حقيقية، لأنها ناصرت وعاشت معاناتهم بتفاصيلها ورفضت النسيان والخذلان..
ناضلت، دونت، كتبت، قاطعت، قاومت.. ولم يبق أمامها خيار غير ذلك..
لَفَّت المجاهدين في دعائها وترحمت على الشهداء.. ونظرت بعين الأسى إلى الجرحى والمصابين..
وأمام كل هذا تحس بالعجز الشديد ولا تعيش حياة كما الحياة، لأن قلبها هناك..
وفوق كل هذا وذاك.. تعلمت الشيء الكثير.. وتمثلت لها في شعب غزة الأبي صور السلف الصالح ممن قرأت سيرتهم ولم تعش عصرهم، ماثلة أمام ناظريها..
رأت فتية الكهف.. وأصحاب الأخدود.. وماشطة بنت فرعون.. دار الأرقم وبدر الكبرى والخندق ومؤتة في مشهد جديد وعصر حديث..
وعرفت سر اليقين والرضا المنبعث عن رحابة صدر وإيمان عظيم، وعلمت أنه مجهود سنين، وعصارة جهد وثمرة عمر، وعمل خالص صادق..
صُنِع على عين الله في المساجد التي تخرج منها صفوة الحفاظ..
“سعاد” هي امرأة مغربية أبت الظلم والقهر، وبذلت من وقتها وجهدها لنصرة القضية، بكل ما أوتيت من قوة..
وهي وغيرها -كثيرات- صورة للنساء الحرائر اللاتي أبين أن يكن مجرد نساء لا يهمهن سوى معيشهن اليومي، وهمومهن الشخصية، بمعزل عن مصاب الأمة.. فقد عايشت ولو عن بعد، كل ما يقع في غزة الحبيبة، وأحست بقلب صادق ما تعيشه النساء هناك..
آلمها ما يؤلمهن.. وتابعت الأخبار والأحداث ولم تتوان قط عن الإحساس بمصابهن، وكأنها في خندق واحد معهن.. على اختلاف الظروف والمكان..
إنه السابع من أكتوبر.. ذكرى سنة كاملة على طوفان الأقصى، معركة الأمة، واليوم الذي حرك بوصلة التاريخ والجغرافيا، وبين للعدو أن المقاومة ما زالت بخير.. وأبناءها ما زالوا مستعدين للدفاع عن أرضهم وعرضهم وعقيدتهم حتى آخر رمق..