في شهر مارس من عام 2020 للميلاد، أطل فصل الربيع كعادته محدثا انقلابا غير معهود في البلاد؛ رياح قوية وأمطار غزيرة وغبار غاضب متطاير، جو خريفي في غير حينه، لا تكاد تستقر على لباس، تارة تخلع المعطف وأخرى ترتدي قمصانا خفافا. انقلاب ربيعي محمل هذا الموسم بغبار فيروس “كوفي 19″، ولعل سيارات الإسعاف وإعلان حالة الطوارئ في الشوارع وندرة المارة في الطرقات خير دليل على أن الخطر محدق، والحجر الصحي صار الأمير، فلا ترى إلا وجوها مكممة وأخرى أسدلت عليها بعض الكوفيات اتقاء واحترازا من أي مصاب تصطدم به على حين غرة.
ينتابني فضول كبير حول عدسات وكاميرات من كانوا يبحثون عن السبق، يتعقبون مشاهير التفاهة ونجوم وإعلاميي السفاهة، وأخبار الأزياء وعالم النساء المنهار على أديم التسوق والاستهلاك، ترى أين محلهم اليوم؟ وماذا يفعلون؟ لا أحد يحس بالحاجة إليهم، فوجودهم وغيابهم إذن سيان، لم تعد لأضوائهم المزيفة حاجة، حاجتنا الماسة اليوم إلى إضاءات غرف الإنعاش، وإضاءات بيوت يذكر فيها الله استمطارا للفرج .
أصبحت جل الطرق تؤدي إلى مكان وحيد، تتجه إليه الأنظار، وتترقب الأخبار من جنوده المرابطين الأشاوس؛ إنه المستشفى بجميع أطقمه، أصحاب الوزرة البيضاء، في زمن كورونا رجحت كفة الطبيب والممرض والعمال التابعين لقطاع الصحة، أصبحوا جميعهم على قلب رجل واحد، يعملون على قدم وساق، مرابطين في ثغور إنقاذ الإنسانية.
في إحدى ردهات المستشفى الإقليمي، رمى الدكتور عمر بجسده المنهك على أريكة مترهلة في زاوية المناوبين، بعد خروجه من غرفة الإنعاش أحس بصبيب من العرق البارد يتقاطر من مؤخرة رأسه كسيل دقيق على عموده الفقري، هم بحك رأسه، وتذكر لباس العزل الصحي المنفوخ الذي يغطي جسمه من الرأس إلى القدمين، أنى له ذلك، فأبسط الحاجيات أصبح الإنسان يمسك عن فعلها.
أمامه فترة قصيرة للراحة ليعود لعمله، أطلق زفيرا عميقا عله يخفف عنه بعض ما يحسه، أخذ بكلتا يديه رأسه، وكأنه يخشى عليه من السقوط، فقد صُدِع في غرفة العزل الصحي مما تسمع أذناه من أنين المصابين بالوباء؛ منهم المتوجعون ومنهم من صَبَر وقليل ما هم. أخرج هاتفه المحمول بسرعة قبل أن يمضي الوقت، يداه ترجفان، سافر بذاكرته في الأفق، نسي متى تناول آخر وجبة طعام أو دخل الحمام، بحث عن سلوى تواسي كبده المحروق، فتح تسجيلات صوتية لزوجته وابنه الصغير يهم بالبكاء؛ أبي.. اشتقت إليك، متى تعود؟ يكفي من العمل … كلمات تحمل براءة من لم يعِ خطورة الوضع خارج المنازل، لا تعرف طفولته سوى تعطل الدراسة لأيام، تستطرد الزوجة: عزيزي عمر عد سريعا، عقم نفسك جيدا قبل المجيء…
أقفل الهاتف ورفع بصره إلى السماء متمتما: اللهم أزح عنا الغمة وارفع هذه الجائحة، اللهم لطفك بنا وبأبنائنا وبالناس أجمعين.. انتبه، صوت الممرضين ينادونه في استعجال: “دكتور عائلة كل أفرادها مصابون والحالة حرجة”، هرول بخطى واسعة ليدخل جناح العزل الصحي، لبس قفازتيه وانهمك في العمل إلى جانب الزملاء.
وهو يهم بالخروج ليلتقط أنفاسه إذا بصوت خافت يناديه، شاب صدره ينتفض وجبينه يتصبب عرقا: “دكتور من فضلك لحظة .. الله يكثر خيرك”، اقترب منه، “أخبر أهل بيتي بوصيتي، أتموا حفظ القرآن من بعدي، إن لم يكتب لي العيش، واجعلوا لي هدية يومية منه تؤنسني في وحدتي”، عدل الدكتور جهاز تنفس المريض، سأل الممرضة عن درجة حرارته، أخبرته أن حالته مستقرة، استدار نحوه وأجابه مشجعا: “ستشفى بإذن الله وتكمل معهم ما بدأت”.
أكمل الدكتور عمر تفقد المرضى وتقارير المصابين الجدد، وظل يتنقل حتى تنملت قدماه، خرج إلى الممر وألقى بجسمه المثقل على الأرض ومدّ رجليه المتعبتين، مدد ظهره وثبت رأسه على الجدار ؛ استرجع وصية الشاب؛ القرآن، تساءل: كيف يفكر بختم القرآن وهو يصارع الموت؟ ياه، كم غفلت أنا عن قراءته فما بالك بحفظه، ولم يسبق لي أن اجتمعت مع عائلتي لأجله، أنستني كثرة انشغالات الدنيا التفكير في مآلي، لئن أحياني الله تعالى بعد هذه المحنة لأعيدنّ ترتيب الأولويات في حياتي، فبم ستنفعني السيارة الفارهة والمنزل الفخم إن أقبلت على الله خالي الوفاض مما ينفعني عنده.
أخذته، وهو على حاله هذه، سِنة من نوم، لتتسلل إلى أذنيه نغمة جميلة استفاق عليها؛ إنه صوت المؤذن يؤذن لصلاة المغرب، كم هو عذب صوت الأذان، كأنه يسمعه لأول مرة، استجمع قواه وفي عينيه ومضة أمل وفي قلبه عزيمة، تطهر ومشى بخطوات ثابتة نحو زاوية يصلي فيها ثلة من الأطباء والممرضين والتحق بصف المصلين، الله أكبر، أكبر من الدنيا وما فيها، سرت في جسمه لذة واستفاقت في سويداء قلبه عزمة ملتهبة نفضت عنه رماد الغفلة؛ “اللهم توبة نصوحا، أستغفر الله”.
انتظر بشوق وقت الاستراحة، أخذ بين يديه مصحف زميل له، وفتح دفتيه وبدأ يقرأ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ.. وبدأت قطرات من الدموع تسيل على وجنتيه.. الحمد لله أن هداني لهذا وما كنت لأهتدي لولا أن هداني الله سبحانه وتعالى.