قراءة في آية: ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ ٱلْمِيثَـٰقَ.
غرضنا من عرض هذه الآية وتسليط الضوء على مضمونها ما أصبحنا نراه من استخفاف الناس بعهودهم ووعودهم فيما بينهم، مما يدمر الثقة فيما بينهم ويصدع بنيان المجتمع، ومما يؤكد أهميته في حياتنا ومعاملاتنا اليومية تنبيه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم الدائم المسلمين لاحترامه، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: “مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ” 1
- من خصائص سورة الرعد
آيتنا من آيات سورة الرعد، وهي من السور المدنية “التي اختلف في مكّيّتها أومدنيّتها، فقال قوم إنها مكّيّة، لأنها شبيهة بالسور المكّيّة في قصّتها وموضوعاتها، وقال آخرون إنها مدنيّة ولكن موضوعاتها تشبه موضوعات السور المكّيّة. وآياتها ٤٣، نزلت بعد سورة محمّد.
. ممّا نلاحظه في سورة الرعد؛ عنايتها بالمقابلة بين الإيمان والكفر. الهدى والضلال. الاطمئنان والحيرة. وحين تعرضت السورة لرسم مشاهد الكون، عنيت بإبراز المشاهد المتقابلة: سماء وأرض. شمس وقمر. ليل ونهار. شخوص وظلال. جبال راسية وأنهار جارية. زبد ذاهب وماء باق. قطع من الأرض متجاورات مختلفات. نخيل صنوان وغير صنوان. ومن ثم تطّرد هذه التقابلات في كل المعاني وكل الحركات وكل المصائر في السورة، لتناسق التقابل المعنوي في السورة مع التقابلات الحسية، وتتّسق في الجو العام… وهذا التناسق الفني، من بدائع الإعجاز في القرآن الكريم” 2
ويمكن تقسيم السورة إلى قسمين: القسم الأول عرض للمشاهد الهائلة في آفاق الكون وأعماق الغيب وأغوار النفس.
القسم الثاني من السورة عرض لـ “لمسات وجدانية وعقلية وتصويرية دقيقة، حول قضية الوحي والرسالة، وقضية التوحيد… وهي جولة جديدة حول تلك القضايا في السورة.” 3 وآيتنا جاءت في هذا القسم الثاني.
- تفسير الآية
جاءت هذه الآية في مجال التفريق بين طائفتين: الطائفة الأولى علمت الحق وعملت به فكانت لها النجاة ونعم عقبى الدار في الآخرة والثانية عميت عن الحق فكانت عليها اللعنة وسوء الدار. قال تعالى: أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ ۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
جاء في تفسير القرطبي: “الذين يوفون بعهد الله هذا من صفة ذوي الألباب، أي إنما يتذكر أولو الألباب الموفون بعهد الله. والعهد اسم للجنس، أي بجميع عهود الله، وهى أوامره ونواهيه التى وصى بها عبيده، ويدخل فى هذه الألفاظ التزام جميع الفروض، وتجنب جميع المعاصى. ولقد ذكر الله الوفاء بالعهد والميثاق في أكثر من عشرين آية من القرآن.
وقوله: ولا ينقضون الميثاق يحتمل أن يريد به جنس المواثيق، أي إذا عقدوا فى طاعة الله عهدا لم ينقضوه. قال قتادة: ونهى الله عباده عن نقض الميثاق أيضا فى أكثر من عشرين آية سنعرض بعضها فيما بعد.
والميثاق هو اتفاق جماعي يلتزم فيه الأطراف بتنفيذ ما فيه من قواعد وقوانين. والفرق بين الميثاق والعهد هو أن الميثاق توكيد العهد، فهو أبلغ من العهد . قال الله تعالى الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ[سورة البقرة. الآية 27] أي: من بعد توكيده.
وقد مدح الله تعالى الموفين بالعهود بأنهم أولو الألباب، أي: أصحاب عقول، حيث هدتهم عقولهم إلى وجوب احترام العهود والمواثيق التي التزموا بها لخالقهم في الإيمان والعبادة، والمخلوقين في المعاملات والسلوك، فلا ينقضون عهدا ولا ميثاقا.
قال الأستاذ عبد السلام ياسين: “وأولو الألباب عقلاء قبل كل شيء، لكن عقلهم في خدمة اتجاههم العاطفي الإيماني، يقوي الاتجاه حتى يكون إرادة نافذة يفي صاحبها بالعهد، ويصل ما أمر الله به أن يوصل، ويصبر وينفق، ويقيم الصلاة، كل ذلك رغبة فيما عند الله ورهبة. ذلك عقل تحرر من إساره فأصبح لُبا من اللب سائرا مع الهداية القلبية.” 4
- أهمية الوفاء بالعهد وعدم نقض الميثاق
لقد كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أوفى الناس بالعُهودِ والمَواثيقِ حتى مع أعداءِ الإسلامِ. وثَبَتَ عنه أنَّه رَدَّ أبا جَندَلٍ لقريش للعَهدِ الذي كان بَينَه وبَينَهم، أن يرُدَّ إليهم من جاءَه منهم مُسلِمًا.
وكذلك كان صحابته رضي الله عنهم:
فعن حُذَيفةَ بنِ اليمانِ رَضِيَ اللهُ عنه: قال: “ما منَعَني أن أشهَدَ بَدرًا إلَّا أني خرَجتُ أنا وأبي حُسَيلٌ، فأخَذَنا كُفَّارُ قُرَيشٍ، قالوا: إنَّكم تريدون محمَّدًا، فقُلْنا: ما نريدُه، ما نريدُ إلَّا المدينةَ، فأخذوا منا عَهدَ اللهِ وميثاقَه لننصَرِفَنَّ إلى المدينةِ، ولا نقاتِلُ معه، فأتينا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخبَرْناه الخبرَ، فقال: انصَرِفا، نَفِي لهم بعَهْدِهم، ونستعينُ اللهَ عليهم” 5
وعن عوف بن مالك قال: كنا عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سبعة أو ثمانية أو تسعة فقال: ألا تبايعون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا: قد بايعناك حتى قالها ثلاثا، فبسطنا أيدينا فبايعناه، فقال قائل: يا رسول الله! إنا قد بايعناك فعلى ماذا نبايعك؟ قال: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وتصلوا الصلوات الخمس وتسمعوا وتطيعوا – وأسر كلمة خفية – قال: لا تسألوا الناس شيئا. قال: ولقد كان بعض أولئك النفر يسقط – سوطه فما يسأل أحدا أن يناوله إياه) 6
ومن نتائج الوفاء بالعهود والمواثيق:
– تحصيل التقوى. قال تعالى: بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ[سورة آل عمران. الآية 76]
– وتكفير السيئات وإدخال الجنات وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ 7 قال أبو العالية: “عهدُه إلى عباده، دينُ الإسلام أن يتبعوه،” أوف بعهدكم “، يعني الجنة.
ولا شك أن سلامة المجتمع ورقيه رهين بمدى وفاء أفراده بعهودهم اتجاه الله سبحانه واتجاه بعضهم لبعض واتجاه أنفسهم
- عاقبة الناقضين للميثاق
ومن عاقبة نقض المواثيق:
– استحقاق لعنة الله وقسوة القلب والخيانة ونسيان الفروض والواجبات وهذه العواقب كلها جمعت في آية واحدة قال تعالى : فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[سورة المائدة. الآية 13]
– وكذلك الخسران العظيم في الدنيا والآخرة: قال الله عز وجل: الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون[سورة البقرة. الآية 27].
– ونقض العهد يوصل صاحبه إلى النفاق قال تعالى: وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ. فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ[سورة التوبة 75-77] وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك أشد التحذير فقال: “أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر” 8
ومجتمع يسوده نقض العهود لاشك خرب وهِن كبيت العنكبوت لا ثقة فيه بين أفراده ولا ورع ولا تقوى ومآله الخراب والفساد.
والحمد لله رب العالمين
- من كلام المرشد للاستئناس
وأوصي بالصدق مع الصادقين صبرا ومصابرة وحملا وتحملا. فما الكينونة الصابرة مع الصادقين بالأمر الهين. طاش ما عاش من زعم أنه صادق ثم عثَر أول ما برز أمامه نتوء من نتوءات العقبة. عقبة أمر” وصيتي.
أعني بكلمة صدق استعداد الوارد ليتحلى بشعب الإيمان، ويندمج في الجماعة ويكون له من قوة الإرادة وطول النفس ما يمكنه من إنجاز المهمات حتى النهاية. 9
الناظمة الثالثة التي سنتحدث عنها بعد حين إن شاء الله هي الطاعة وواسطة النواظم هي الشورى بين المحبة والطاعة. والجمع بين هذه النواظم العاطفية الفكرية العملية من أعوص الأمور. تطرح للنقاش مشكلة والأفهام متفاوتة والتجارب مختلفة. فتحتد الآراء وتتنابذ الأفكار فتتهدد المحبة، ويطل حب الرئاسة والانتصار للرأي على النفوس. فذلك حين تكون الشدة امتلاكَ النفس عند الغضب. ثم يعزم القرار، ويطلب إليك أن ترجع للرأي الغالب فتمتنع النفس. فذلك حين اقتحام عقبة الهوى.
فنرى هنا بوضوح تداخل التربية مع التنظيم في الإسلام. الإيمان يطلب إلي أن أُحاج أخي مهما كانت وجهات النظر متباينة، ومهما كان النقاش والخلاف عميقين، دون أن أحقد، بل دون أن ينقص من حبي وتقديري لأخي. هذا لا يأتي إلا بتربية الإيمان حتى تصبح أعمالي في الصلاة وخارج الصلاة عبادة أتقرب بها إلى الله لا أغفل عن ذكره. ثم يطلب إليَّ الإيمان أن أطيع الأمير وأنا أرى أن وجهة نظري أحق. وهذا أيضا لا يأتي إلا بتربية تشعرني أن طاعة أولي الأمر منا من طاعة الله ورسوله. 10
“أعمال المؤمنين سعي مَرْضِيٌّ في الدنيا إن حسَّنَه الإتقان، مرضِيٌّ في الآخرة إن زكّاه الإيمان وزكتهُ النية” 11
“جزاء الله جلت عظمته على الأعمال يُحْصَى فيه روح الأعمال وهي النية، وكتلة الأعمال ومقدارها وزمانها ومكانها واستمرارها، ثم نجاعتها وفائدتها وصوابُها. فليس سواء من أخطأ وبدد جهوده كمن بلغ الغاية الحسنة من عمله.” 12
قال رسول الله ﷺ: «إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي». 13 قال رسول الله ﷺ: «إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي». 14
يقول الإمام المرشد :”الصدق في القلب بينك وبين الله تعالى، لا يستطيع عبد أن يعالج مرضك وخللك من جانب الصدق. لا يقترب من ذلك إلا تصفحك لنفسك صباح مساء، ومقارنة تخاذلك باجتهاد غيرك أحياء وأمواتا”.
“الذي أمر الله به أن يوصل هو آصرةُ الإسلام، و«العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة»، وميثاق لا إله إلا الله محمد رسول الله. والذي أمر به الله ورسوله أن يقطع هو عبّـيَّــة الجاهلية، وأنصار باطل عبية الجاهلية.” 15
[2] كتاب الموسوعة القرآنية خصائص السور[جعفر شرف الدين ج 4، ص 192 بتصرف.
[3] كتاب الموسوعة القرآنية خصائص السور[جعفر شرف الدين ج4، ص190 بتصرف.
[4] الاسلام غذا/ 42.
[5] أخرجه مسلم في صحيحه.
[6] أخرجه مسلم في صحيحه.
[7] جزء من الآية 40 من سورة البقرة.
[8] أخرجه الشيخان البخاري ومسلم.
[9] المنهاج النبوي، تربية وتنظيما وزحفا، ص: 73.
[10] المنهاج النبوي، ص: 88.
[11] الإحسان، ج 2، ص: 89.
[12] نفسه ص 90.
[13] الحديث رواه مسلم.
[14] الحديث رواه مسلم.
[15] حوار مع صديق أمازيغي، ص: 170.