قبل ثلاثين سنة، كنت أدرس بالسلك الإعدادي، وصادف الصيف وجودي في العاصمة الرباط، حيث كان يشتغل والدي، زرته صحبة أخي لنقضي عطلة الصيف بالعاصمة، حيث البحر والجو المعتدل، والابتعاد نسبيا عن قر الحر ولهيب الصيف في مدينتي وزان.
كنت حديث عهد بالانتساب لجماعة العدل والإحسان، جماعة وجدتني في كنفها، أرفل في نعيمها، وأشرب من معينها، وأستظل بظلالها.
اخترت الانتساب لهذه الجماعة، أو لنقل هي من اختارتني، وهل ترك لي الشوق والحب يومها سلطة الاختيار؟
ألفيتني منقادا طوعا لحضور مجالس الخير، مجالس الإيمان، كنت حديث عهد بالأجواء الإيمانية الجماعية، لكن حلاوة البداية لها أثر شديد.
كم أحن لتلك النفحات، وكم أشتاق لمثل تلك المشاعر التي عشتها صحبة شبيبة أخيار، ورجال أبرار.
منّ الله علي بوالدين كريمين، تركا لي الاختيار، يفرحان لقراراتي، وكيف لا يفرحان وهما يريان ابنهما البكر يعيش بطموح الكبار، كانا حفظهما الله مطمئنين لما يلمسانه في من تغير، فالصحبة طيبة والرب غفور كريم.
أحيانا كنت أخفي عن أمي موضوع بعض السفريات التي كنت أرشح لها، وغالبا ما كانت تكون صوب الرباط، لمجالسة عضو من أعضاء مجلس إرشاد الجماعة.
ولقد تعلمت في صغري الحزم والجد والانضباط، مع ما تلقيته من الداعية الجندي البسيط خالي، وما ارتويت به من صحبة أخي محمد، الذي جعلني أعيش في جبة الكبار.
كنت أسمع عن الإمام المرشد عبد السلام ياسين، يوما بعد يوم، لما كان محاصرا، فبدأت تتشكل في مخيلتي صورة عن هذا العالم الرباني المجاهد.
سمعت بمؤلفاته من قبيل “الإسلام بين الدعوة والدولة” و“الإسلام غدا”، و“المنهاج النبوي”. ما أدهشني حقا الكتاب الذي كان عبارة عن رسالة مفتوحة لملك المغرب، الحسن الثاني: “الإسلام أو الطوفان”.
الكتاب عبارة عن رسالة تقع في أكثر من مائة صفحة، كانت الطبعة الأولى حجرية قديمة، بجهد جهيد أستطيع أن أفك ألغاز بعض الكلمات وطلاسيمها، كنت حريصا على أن أقرأ هذه الرسالة، التي قيل لي أن المرشد رحمه الله وزعها بنفسه على كبار العلماء ومسؤولي البلد، وكان حريصا أن تقع في يد العلماء قبل أن تقع في يد الملك.
علمت وأنا حديث السن، لم يتجاوز عمري الخامسة عشرة ربيعا، أن ضريبة هذه الرسالة كانت ثلاث سنوات موزعة بين مستشفى المجانين والمصدورين، ولقد أخبرني أخي محمد، الذي كنت أحفظ عنه ما يقول، أن المرشد رحمه الله اشترى كفنه استعدادا للموت في سبيل كلمة الحق، ولعله كان يمتثل حديث سيِّد الشُّهداءِ حمزة بن عبدِ المطَّلبِ: “.. ورجلٌ قام إلى إمامٍ جائرٍ فأمره ونهاه فقتله” (ذكره الألباني في السلسلة الصحيحة عن جابر بن عبد الله).
ازداد حرصي على البحث عن هذا الكتاب، وقلت في نفسي لابد من قراءة هذه الرسالة، انتظرت ما يزيد عن السنة؛ بحثا وتنقيبا، طلبا وإلحاحا.
ولست أدري لماذا منعوني من قراءتها يومها؟ ربما خوفا علي وأنا حديث السن، أو ربما ظنا منهم أن مستواي الفكري يومها قد يحول بيني وبين فهم تلك المضامين التي كانت منثورة في ثنايا هذا الكتاب.
تسلمتها من سعيد، وكان يومها طالبا نشيطا في القطاع الطلابي، أو لربما كان من مؤسسي الفصيل.
تسلمتها، فما وضعتها حتى أكملتها، كانت ديباجتها غريبة عجيبة، يقشعر جلدي وأنا أقرأ ما خطته أنامل الإمام المرشد رحمه الله: “إلى المولى الحسن بن محمد بن يوسف حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وأيا ما كان جوابك يا حبيبي يا حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فها أنت سيدي حفيد النبي ترى أن أدائي للنصيحة قيام بفريضة فرضها الله على علماء هذه الأمة وعامتهم.. إنك يا حفيد النبي.. إنك يا حبيبي يا حفيد رسول تؤمن بالله واليوم الآخر.. وأنت يا أخي يا حفيد النبي..”.
رسالة “الإسلام أو الطوفان” رسالة نصيحة إلى الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله كتبها الأستاذ عبد السلام ياسين في رجب 1394هـ الموافق لشتنبر 1974م، يدعوه فيها لإصلاح جذري يقطع العهد مع الاستبداد ظلما للعباد وتبذيرا لمقدرات البلاد وتفويتا لفرص الرقي والنماء، فزج به في مَشفى المجانين ثلاث سنوات ونصف لصرف الرأي العام عن رسالته، كما زج بصاحبيه المرحومين الأستاذ محمد العلوي السليماني والأستاذ أحمد الملاخ في معتقل درب مولاي الشريف سيء السمعة خمسة عشر شهرا دون محاكمة.
كان أول كتاب قرأته للإمام رحمه الله، فما وضعته من يدي حتى أكملته، زاد حبي لهذا الجبل الشامخ إذ علمت أن لا أحد يستطيع فعل هذا إلا هو، رجل أمة، يجسد العالم المجاهد، العالم المربي، العالم الوارث الحقيقي للأنبياء.
من خلال “الإسلام أو الطوفان” أدركت أن الأمة ما تزال بخير، وسيبقى الخير فيها ما بقي الليل والنهار، أدركت أن هذه الأمة كالغيث، كما جاء عن عبد الله بن عمر وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أمتي كالغيث، أو مثل أمتي كمثل المطر، لا يُدرى أوله خيرٌ أم آخره”.
الرسالة فتحت لي بابا للأمل، ولقد كنت على وشك من اليأس.
قليلة ونادرة تلك الكتب التي تغير الإنسان، تنقله من عالم الضياع والتيه إلى عالم السكينة والثبات، كنت كالعطشان في الصحاري، يبحث عن ماء، فلما وجدت الماء ارتويت، فتضلعت.
بقي في قلبي الصغير غصة لقاء هذا الرجل، وكنت أسمع أنه يعيش تحث قيود الإقامة الجبرية، وبصريح العبارة جعلوا مخفرا للشرطة قرب بيته؛ يحصون أنفاسه، يعدون حركات وسكنات كل من سولت له نفسه الاقتراب من هذا البيت، بله الدخول إليه، حراسة مشددة ومداومة صارمة.
ولكن إصراري حملني على مغامرة، فقلت: لم لا أجرب حظي؟ ربما أنجح، وأنا يومها لم يتجاوز سني الخامسة عشر ربيعا.
قصدت مدينة سلا متوجها إليها من العاصمة الرباط؛ سألت عن حي السلام، فأرشدت إليه، جعلت أتأمل مسجد بنسعيد، أرفع بصري عاليا حتى أحيط بتلك الصومعة ذات المعمار الأندلسي الرفيع، ورجعت لذاكرتي حيث كان هذا المسجد قبلة للمؤمنين، وكان يخطب فيه المرشد رحمه الله رحمة واسعة أواخر الثمانينيات، هذا المسجد الذي بقي اسمه خالدا في ذاكرتي.
جعلت المسجد عن يساري وتوجهت يمينا بعدما سألت بعض جيران الحي، الذين نصحوني بعدم الاقتراب إشفاقا علي، ربما لأنهم يعرفون مصير من يتعنت ويريد أن يتجاوز هذا الجدار الأمني. وكم هي الحالات التي كانت تخضع للاستنطاقات والمضايقات، والحالات التي كانوا يزجون بها في مخافر الشرطة مع المجرمين وأصحاب السوابق، لا ذنب لهم سوى حبهم لعالم فضل الجهر بكلمة الحق في زمن سكت فيه الجميع وخضع من خضع.
بقيت مصرا على الوصول لهدف سطرته، وحلم راودني، لكن هيهات ثم هيهات، مشيت رويدا رويدا منحني الرأس حتى لا يشعرون بي ولا يلتفتون إلي، فلما لم يبق بيني وبين بيته العامر إلا أمتارا قليلة؛ سحبني أحدهم من كتفي الأيمن ودار بيني وبينه هذا الحوار :
– إلى أين إن شاء الله؟
– قلت: أليست هذه طريق؟
– قال لي: كم عمرك؟
– قلت: ستة عشرة سنة.
– قال لي: لا تذهب من هنا؟
– قلت وفي عيني إصرار: ولم؟
– قال لي: من أين؟ وإلى أين؟
– قلت: من الرباط، وتحديدا حي بير قاسم قرب جامع كراكشو، هناك حيث يعمل والدي.
ختم معي الحديث وهو يصرخ في وجهي: هيا انطلق بعيدا من هنا، نحن نخاف عليك!
عجبت لأسلوبه الفظ الغليظ معي، كما عجبت لجرأتي عليه.
فشلت في تنفيذ خطتي، وفرحت لأول مناورة قمت بها في حياتي مع رجال الأمن.
زاد حبي للإمام، وزادت مكانته في قلبي، وبقيت أنتظر اليوم الذي سيزول فيه الحصار وستكتحل عيناي برؤيته.
وبعد ثمان سنوات من شوق الانتظار ولهف اللقيا والاحتضان، سيفك الحصار، ويخرج المرشد أول خروج له، فتكون الوجهة القنيطرة، والسجن المركزي، حيث كان يقبع أحبة لنا خلف قضبان الظلم والجبر.
منع رحمه الله من هذه الزيارة التاريخية، زيارة المحبة والوفاء.
وبعد أقل من شهر سنحظى بأول زيارة، وكنت يومها طالبا بفاس المحروسة، فاس العالمة، فاس أرض الأولياء والصالحين، فاس أرض المجاهدين، فاس حيث الأصهار الأخيار، فاس حيث منير الأنوار والعلامة الفقيه القارئ سيدي عبد العلي المسئول، فاس حيث الحمداني والسليماني والعمراني…