ما أحب الإنسانية شخص مثلما أحبها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كرس حياته كلها لإسعادها وإخراجها من ظلام الجهل والضلال إلى نور العلم والهدى. وإن التاريخ شاهد على ما أحدثه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من تحول في حياة البشرية، فمن حياة ملؤها الجور والفحشاء والطغيان إلى مجتمع أخوي ينعم بالعدل والكرامة.
وترك صلى الله عليه وسلم سنته باقية إلى يوم القيامة بيضاء نقية لا يزيغ عنها إلا هالك، من تمسك بها هدي، ومن حاد عنها ضل وشقي. وقد دفع الثمن صلى الله عليه وسلم غاليا لتحقيق هذه السعادة، فقد طرد من بلده وهو أحب إلى قلبه، وأهين صلى الله عليه وسلم وتربص به وقوتل فكسرت رباعيته وأدميت قدماه الشريفتان، ونال الأمرين مع قومه، وما أثناه ذلك عن تبليغ رسالته ونشر دعوته.
وكم كان يحزنه إعراض قومه عن الخير الذي كان يريده لهم، بل كاد يقتل نفسه من شدة الحزن على ذلك كما أخبرنا رب العزة سبحانه: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (الكهف، 6).
وعلى هديه سار الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، فقد جادوا بالمهج واسترخصوا الغالي والنفيس لإعلاء كلمة الله وتحرير الإنسان من العبودية والظلم، كما قال ربعي بن عامر رضي الله عنه لرستم قائد الفرس: «نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام»، صدقوا وثبتوا فأفلحوا رضوان الله عليهم.
أترانا، ونحن إخوة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين ودّ لو رآنا، نضيع العهد ونركن إلى حياة حقيرة زائلة؛ فلا نحمل لواء التغيير ولا نرفع مشعل الهدى والرشاد للبشرية التي تئن اليوم تحت وطأة الظلم والاستعباد؟ كلا، بل لابد من إعطاء برهان الصدق على أخوّتنا لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه “أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أتَى المَقْبُرَةَ، فقالَ: السَّلامُ علَيْكُم دارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وإنَّا إنْ شاءَ اللَّهُ بكُمْ لاحِقُونَ، ودِدْتُ أنَّا قدْ رَأَيْنا إخْوانَنا، قالوا: أوَلَسْنا إخْوانَكَ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: أنتُمْ أصْحابِي وإخْوانُنا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ..” (1).
مقام ما بعده مقام أن يحظى الإنسان في وقتنا الحالي بأخوة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته، محبة موصلة إلى المولى الكريم؛ إلا أن هذه الأخوة وهذه المحبة لا تتحقق بالأماني المعسولة، بل بطاعته صلى الله عليه وسلم وحسن اتباعه، قال الله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ۚ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (النور، 54). ثم بحمل رسالته ونشر دعوته، فقد يكون الإنسان واهما إن ادعى حب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهتم بأمور المسلمين ولم يسع لإصلاح أحوالهم. أكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسر لهذا الوضع المأساوي الذي تعيشه أمته، وهو الذي ما كانت تقر له عين إلا بصلاحها وهدايتها، وما ادخر دعوته إلا لنيل شفاعتها؟ كلا، ما نالت أمته الخيرية من بين الأمم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ثم فـ«من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه به، مات على شعبة من نفاق» (2). لذا، وكما قال الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: «على المؤمنين أن يقول بعضهم لبعض: ‘بأيدينا نسأل الله أن ينزل قدره’. فهات يدك نتحاب ونتعاهد على نصر الله. وللزحف محجة لاحبة وهدف معلن ومرونة ضرورية وثمن معلوم» (3).
المحجة اللاحبة تتطلب نفسا طويلا وقوة شديدة لاقتحام عقباتها، لكن من عرف ما قصد هان عليه ما وجد؛ فمن أيقن أن الثمن رضى المولى آثره على المحبوبات الثمانية المذكورة في الآية الكريمة من سورة التوبة: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (التوبة، 24).
رفع الله هممنا لننال التفضيل الإلهي الذي خص الله به المجاهدين الذين سينعمون بالأجر العظيم. آمين والحمد لله رب العالمين.
(1) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه “أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أتَى المَقْبُرَةَ، فقالَ: السَّلامُ علَيْكُم دارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وإنَّا إنْ شاءَ اللَّهُ بكُمْ لاحِقُونَ، ودِدْتُ أنَّا قدْ رَأَيْنا إخْوانَنا قالوا: أوَلَسْنا إخْوانَكَ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: أنتُمْ أصْحابِي وإخْوانُنا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ فقالوا: كيفَ تَعْرِفُ مَن لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِن أُمَّتِكَ؟ يا رَسولَ اللهِ، فقالَ: أرَأَيْتَ لو أنَّ رَجُلًا له خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ ألا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟ قالوا: بَلَى يا رَسولَ اللهِ، قالَ: فإنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الوُضُوءِ، وأنا فَرَطُهُمْ علَى الحَوْضِ ألا لَيُذادَنَّ رِجالٌ عن حَوْضِي كما يُذادُ البَعِيرُ الضَّالُّ أُنادِيهِمْ ألا هَلُمَّ فيُقالُ: إنَّهُمْ قدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ فأقُولُ سُحْقًا سُحْقًا. وفي رواية: فَلَيُذادَنَّ رِجالٌ عن حَوْضِي” (صحيح مسلم، 249).
(2) رواه مسلم.
(3) عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ط 1989/1، ص 25.