تدبر في قول الله جل وعلا: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ(سورة فصلت 15 – 16).
يقر كتاب الله عز وجل كثيرا من القواعد المهمة والسنن الربانية الأساسية التي تفسر صعود الأمم وسقوطها وعلو الحكام واندحارهم، ومنها هذه القاعدة التي تركز على حالة الانتشاء الذي تتلبس بالأمم الطاغية أو الحكام المستبدين نتيجة شعورهم بالقوة والاستغناء حين تتوفر لهم ـ ما يعتقدون ـ أنها وسائل المنعة وشروط التحصين ضد الاستهداف من الخصوم أو الأعداء. وهذا الشعور بالانتشاء حين يتحول إلى حالة دائمة يصير دافعا رئيسا للاستكبار والطغيان بغير الحق، وهو ما عبرت عنه البلاغة الربانية في القرآن الكريم حكاية عن قوم عاد حين صرّحوا بتفاخر وتكبر وغرور ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَةً. وهي حقيقة مشتركة بين جميع المستبدين في كل زمان ومكان فهم يحرصون باستمرار على استجماع شروط المنعة والقوة والبطش ويتنافسون في الاستعلاء والتكبر والبغي على الخلق اغترارا بما بين أيديهم من إمكانات واستخفافا بما يمكن أن تؤول إليه عاقبتهم من خزي واندحار على أيدي المستضعفين.
وكأني بمستبدي هذا الزمان، خاصة في بلداننا، يكادون يرقصون طربا من الانتشاء جراء ما تَحصّل لديهم من سند خارجي وخنوع داخلي ومن وسائل القهر وأدوات البطش بشعوبهم ونخبها المقاومة لطغيانهم. فأساليب التجسس على الحياة الخاصة للناس ازدادت تطورا وتقنيات التلاعب بالعقول والعواطف صارت أكثر تعقيدا وأخطر تأثيرا. كما أن الدعم المادي والمعنوي من أنظمة الاستكبار العالمي لا حدود له والمساندة من الطغاة الآخرين متوفرة وكاملة، إضافة إلى أن الخنوع والاستسلام من قبل الشعوب يتنامى، والاختلاف والتنابز بين المعارضين من مختلف التوجهات الأيديولوجية يتأجج باستمرار ويزيد الكل خوارا وضعفا. فالظروف المواتية لاستعلائهم لم تكن أبدا بهذا المستوى من المثالية ولم تجتمع عناصرها قط بهذه الصورة من قبل، ولعل هذا ما يفسر السلوكات المتغطرسة للمستبدين العرب، وعدم اهتمامهم بالعواقب جراء تماديهم في انتهاك حرمات شعوبهم وغصب حقوقها ومصادمة قيمها ومبادئها، وتسريع وتيرة التماهي مع أعدائها.
لكن الشطر الثاني من الحقيقة التي نص عليها القرآن الكريم، تؤكد أن حالة الانتشاء التي تصيب المستبدين وتدفعهم إلى الطغيان والبغي بسبب الشعور بالقوة، تكون أيضا وبصورة دائمة عامل تسريع لهلاكهم وزوال ملكهم وذهاب أثرهم. وهو ما نصت عليه الآية القرآنية التي ذكرت العقوبة التي حلت بقوم عاد، يقول تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ. فهل حدث استثناء ما خلال التاريخ البشري لم يخضع فيه الطغاة قسرا لهذه القاعدة الربانية؟ تدبروا التاريخ القديم والحديث واقرؤوه بعين الوحي وسيخبركم، وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (فاطر الآية14) صدق الله العظيم.