قطاع غزة من الأراضي التي اغتصبها الصهاينة المعتدين واستعمروها عام 1976. واليوم وبعد ثمان وثلاثين سنة من الاحتلال، وفي خطوة أحادية الجانب جندت إسرائيل الآلاف من الجنود لإخلاء واحد وعشرين مستوطنة من قطاع غزة كان يقطنها ما يناهز ثمانية آلاف يهودي، وأربع مستوطنات من الضفة الغربية. وقد أولى الرأي العام العالمي اهتماما خاصا لهذا الانسحاب، واختلفت ردود أفعال المتتبعين والمعنيين بالشأن الفلسطيني، حيث اعتبره البعض انتصارا للمقاومة الفلسطينية التي كبدت إسرائيل خسائر بليغة، جعلتهم يعيشون عدم استقرار ويتخلوا عن أرض استوطنوها لأزيد من ربع قرن. في حين اعتبره آخرون خطوة تاريخية في تاريخ إسرائيل قد يفتح الباب نحو تسوية شاملة مع الفلسطنيين، وهو ما يجعل هذا الحدث غامضا تثور حوله عدة أسئلة إذ كيف للصهاينة المعروفين بتعطشهم لسفك الدماء وهضم الحقوق أن يتحولوا بين عشية وضحاها إلى دعاة سلام ينسحبون دون مقابل.
فهذا المقال محاولة لقراءة الحدث، وبيان بعض دلالات وخلفيات انسحاب إسرائيل من قطاع غزة وبعض مناطق الضفة الغربية، والتحديات التي تنتظر مستقبل فلسطين والفلسطينيين بعد الانسحاب.
أولا: خلفيات ودلالات الانسحابإن إقدام إسرائيل على إخلاء مستوطنات قطاع غزة ومستوطنات من الضفة الغربية تقف وراءه أسباب ودوافع، ويحمل في طياته عدة دلالات ورسائل، أولها انتصار خيار المقاومة والانتفاضة، وثانيها عزم الصهاينة على رسم خارطة إسرائيلية نهائية. كما يتضمن الانسحاب رسائل إلى السلطة الفلسطينية والدول العربية مفادها التحقير والإهانة.
فقد خلف الانسحاب من غزة ارتياحا لدى المقاومة الفلسطينية التي نظمت مسيرات واحتفالات شعبية بهذا الانتصار رغم محدوديته. فهل حقا كان الانسحاب هزيمة إسرائيلية فرضه ضغط المقاومة الفلسطينية الصامدة وما ينجم عنه من فزع وخسائر على جميع المستويات في صفوف المحتلين؟.
فالمعروف أن إسرائيل تنفق أموالا باهظة لحماية المستوطنين، وإخماد روح الانتفاضة التي قضت مضجع الصهاينة، وزعزعت استقرارهم النفسي والاقتصادي والسياسي. وهذا ما يترجمه كتاب “كلفة الاحتلال للمجتمع الإسرائيلي” الذي أورد فيه مؤلفه شلومو سبيرسكي حقائق عن الكلفة الباهظة، والخسائر الجسيمة التي تسببها الانتفاضة والمقاومة المسلحة والعمليات الاستشهادية في صفوف إسرائيل، حيث بلغ عدد قتلى إسرائيل ما بين سبتمبر 1987، تاريخ اندلاع الانتفاضة، وديسمبر 2004 ما يناهز 1355 قتيلا، و6709 جريحا من المدنيين والجنود. ووصل مبلغ التعويضات التي تدفع للمدنيين الذين قتلوا أو جرحوا على يد المقاومة الباسلة سنة 2003 إلى 350 مليون شيكل -ما يقارب ثمانين مليون دولار-، ناهيك عن التعويضات الخيالية التي تدفعها وزارة الدفاع للمصابين من الجنود. كما أن الناتج القومي الإجمالي السنوي تراجع من 6.1 عام 1987 إلى 0.3 عام 1989.
هذه الأرقام والحقائق الدالة على ضغط ونجاعة المقاومة والانتفاضة أرهقت كاهل إسرائيل ، فجعلت أولى أولوياتها التصدي لفصائل المقاومة، والسعي لتفكيك بناها التحتية وسحب سلاحها. وهذا ما عبر عنه وزير الخارجية الإسرائيلي سلفان شالوم صراحة في حديثه لصحيفة القدس المقدسية المنشور يوم 18/08/2005، حيث طالب شالوم السلطة الفلسطينية بفك البنى التحتية لفصائل المقاومة التي نعتها بالإرهابية مقابل استئناف التفاوض.
فأمام صمود المقاومة، واستهداف المستوطنين المتتالي خاصة في قطاع غزة رغم ردات الفعل العنيفة لقوى الاحتلال وما صاحبها من بطش وتدمير للبنيان، أدركت إسرائيل أنها لم تجن من الاستيطان في قطاع غزة إلا الخسائر تلو الخسائر، فلم يكن أمامها من خيار سوى الاستسلام للأمر الواقع، والتخلي عن قطاع غزة للتقليل من الخسائر وكلفة الاحتلال، وهو ما يستشف أيضا من كلام المتحدث باسم الخارجية الأمريكية الذي وصف الانسحاب من غزة بالتدبير الضروري لجعل إسرائيل أكثر أمنا واستقرارا.
لقد حاول البعض أن يوهمنا بأن الانسحاب من غزة تعبير عن نية إسرائيل في البحث عن سلام شامل ودائم، وقد يكون مدخلا لتحقيق خطة خارطة الطريق التي تفضي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة. وهو ما رد عليه رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون ونفاه حين أكد أن الاستيطان برنامج جدي سوف يتواصل في الضفة الغربية ويتوسع.
فيتبين من هذا أن الانسحاب من غزة هزيمة إسرائيلية جاء تحت ضغط المقاومة الفلسطينية وخاصة حركتي المقاومة الإسلامية حماس والجهاد الإسلامي اللتين صمدتا أمام المحاولات الصهيونية المستميتة لإبادتهما.
وإذا كان هذا قد برهن على انتصار خيار المقاومة والانتفاضة على خيار التفاوض الاستسلامي الصوري فإن الانسحاب عبر قرار من جانب واحد تضمن رسائل من بينها إهانة السلطة الفلسطينية، وعدم الاعتداد بها واعتبارها غير مؤهلة للمشاركة في هذه العملية. وهو ما يترجم سوء نية إسرائيل وعدم صدقها في البحث عن حل ولو جزئي للقضية الفلسطينية ليتبين أن الانسحاب خطوة استراتيجية رسمتها بمفردها واقتضتها مصلحتها الأمنية. فإسرائيل لا تولي أي اعتبار للسلطة الفلسطينية إلا حين ترغب في تسخيرها لتجريد المقاومة من سلاحها ومنعها من حق الدفاع عن نفسها وأراضيها.
كما أن هذا القرار الأحادي الجانب يدل على أن الدول العربية، التي نخر جسدها الوهن وبلغ مداه فلم تعد تقوى حتى على الاجتماع ناهيك عن الاتفاق أو إصدار قرار أو تنديد، تعتبرها إسرائيل عدما سياسيا ولا تلتجئ إليها إلا لاستخدامها لأغراض أمنية، نموذج مصر، من قبيل منع تهريب السلاح وإفشال أنشطة المقاومة المسلحة. كما أن الأسرة الدولية هي بدورها تجاهلت القضية الفلسطينية فلم يعد لا الاتحاد الأوربي ولا روسيا ولا غيرهما يعتني بالحقوق الفلسطينية بالشكل المطلوب. فتحررت إسرائيل من كل ضغط خارجي ووجدت نفسها طليقة تفعل ما تشاء، تنسحب متى تشاء ومن حيث تشاء، وتستوطن حيث تشاء ومتى تريد، والعرب من وراء ذلك يتفرجون يصفقون أحيانا، ويلهثون وراء أمريكا تارات علها تلتفت إليهم وهي لا تفعل، ليستمر العبث ويترسخ داء الأمم.
فلم تجد إسرائيل أمامها سوى المقاومة الفلسطينية التي تخلى عنها العرب، والتي رغم نجاعتها وأثرها ما هي في الحقيقة إلا صرخة في وجه الضمير العربي والإسلامي، ونداء إلى الرأي العام العالمي والإسلامي خصوصا للوقوف ضد الغطرسة الصهيونية، ودعوة لحكام العرب ليستيقظوا من سباتهم عساهم يتوحدوا يوما ويقولوا لإسرائيل بصوت واحد كفى استهتارا.
ثانيا: ماذا بعد الانسحاب؟إن الأهم عند إسرائيل والذي ستسعى إلى تحقيقه هو فك البنى التحتية لفصائل المقاومة ومحاولة تجريدها من السلاح، ولتحقيق هذا المسعى ستسمح للسلطة الفلسطينية بتنسيق مع مصر ومخابراتها ببسط نفوذها على المناطق المنسحب منها، وستتفاوض معها، بمبرر إحياء عملية السلام وفق خطة خارطة الطريق، قصد توظيفها لتحقيق حلمها الذي تتضمنه خطة الطريق التي تنص على المهام المطلوب من السلطة الفلسطينية تنفيذها والمتمثلة في شن أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية بعد إعادة تأهيلها “لعمليات مستمرة واضحة الهدف، وفاعلة ضد جميع المتورطين في الإرهاب، وتفكيك البنى التحتية للإرهابيين وقدراتهم، ومصادرة الأسلحة غير المشروعة”. فإسرائيل لا تولي أي شأن للتفاوض مع السلطة الفلسطينية، ولا تنوي تمكين الفلسطينيين من حقوقهم المشروعة بقدر ما يهمها القضاء على الانتفاضة ورموزها وفصائل المقاومة التي أفقدت الصهاينة صوابهم واستقرارهم.
كما ستراهن إسرائيل على خلق أزمة داخل البيت الفلسطيني، وإشعال فتيل العنف والاحتكام إلى لغة السلاح. وهو ما يتطلب من كل مكونات الشعب الفلسطيني المزيد من اليقظة والحذر وعدم السقوط في فخاخ الصهاينة، وتغليب منطق الوحدة الوطنية، والتوافق على أرضية مشتركة، والارتصاص في صف واحد لمواصلة الانتفاضة ومقاومة المحتل الغاصب الظالم ابتداء في الضفة الغربية والقدس الشرقية، ثم في باقي المناطق المحتلة حتى استرجاع الشعب لحقوقه وكرامته وفاء للدماء الزكية لآلاف الشهداء التي سالت من أجل القدس، من أجل تحرير فلسطين.
فالانتفاضة والمقاومة هما السبيل الأوحد لإيقاف الاستيطان وتهويد القدس، وهما المدخل لطرد المحتل ونيل الاستقلال.
قد يقال إن الانسحاب من غزة خطوة أولى ستمهد لاستئناف التفاوض مع الفلسطينيين وفق خطة خارطة الطريق مما قد يفضي إلى انسحاب إسرائيل من مناطق أخرى محتلة، وهو حلم طالما راود السلطة الفلسطينية. غير أن تصريحات مسؤولي الحكومة الصهيونية والواقع المعاش ينبئ بما هو أسوأ إذ لا تنوي إسرائيل أن تنسحب من الضفة الغربية إلا أن يكون ذلك تحت ضغط المقاومة، وأعلنت رسميا عن إصرارها على تكثيف الاستيطان بالضفة. وهو ما يعني أن انسحاب إسرائيل من غزة هو خطوة إستراتيجية ترمي إلى تحويل غزة إلى سجن كبير تتحكم إسرائيل أو من ينوب عنها في معابره وحدوده. وهو ما سيعطي نفسا جديدا للانتفاضة والمقاومة المسلحة، ويجعلهما أشد ضراوة.
وستسعى الحكومة الصهيونية بدون شك إلى توظيف انسحابها من غزة لتحسين علاقاتها بالدول العربية والإسلامية الأكثر استعدادا للهرولة نحو إسرائيل والارتماء في أحضانها مما سيفتح باب التطبيع على مصراعيه، وهو ما يستوجب من الشعوب العربية التصدي لكل المخططات الإسرائيلية والمتخندقين معها الرامية إلى التطبيع على حساب مصلحة فلسطين وحقوق الفلسطينيين.
أما على مستوى إسرائيل فإن الانسحاب قد يسبب أزمة سياسية داخلية بدت بعض ملامحها سرعان ما ستتجاوز حين تتضح الأهداف الخفية للانسحاب، وستفرز في أقصى الحالات تحالفات وقوى جديدة أشد تطرفا واعتداءا.
إن انسحاب الغزاة المعتدين من غزة هو إرجاع للحق لأهله ومستحقيه بعد غصبه وانتزاعه منهم بالبطش وقوة السلاح، غير أن الصهاينة المعروفين بالمكر والخديعة حاولوا أن يصوروا انهزامهم أمام المقاومة الفلسطينية الصامدة، وانساحبهم من أرض محتلة إنجازا خطيرا. فوظفوه سياسيا وإعلاميا بشكل لم يسبق له مثيل لكسب تعاطف الرأي العام العربي والدولي وإيهامه بجدية إسرائيل في البحث عن السلام حتى تتحرر من أي ضغط خارجي قد يحول دون التلاعب بحقوق الفلسطينيين. ويستحيل أن تنطلي الحيلة على الشعب الفلسطيني الذي خبر بطش وجرائم الصهاينة عن قرب، فالمطلوب منه اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن يتوحد على كلمة سواء لمواصلة الكفاح، وانتزاع بقية الأراضي المحتلة.
كما على الشعوب العربية التي يرزح معظمها تحت قبضة الاستبداد أن لا تتوانى في دعم الانتفاضة ومساندة الشعب الفلسطيني في محنته، فقضية فلسطين قضيتنا جميعا، قضية الأجيال السالفة، وقضيتنا، وقضية الأجيال اللاحقة. ولا يجوز لنا خيانتها، ولا التفريط في أي شبر من أرضها.
المعتقل السياسي مصطفى حسيني
أحد معتقلي العدل والإحسان الإثني عشرالمحكومين ظلما وعدوانا بعشرين عاما سجنا نافذا
حرر بالزنزانة 5 بسجن بوركايز بفاس.