التعليم بالمغرب وإشكالية القيم 1/3

Cover Image for التعليم بالمغرب وإشكالية القيم 1/3
نشر بتاريخ

مقدمة

إن معالجة إشكالية القيم في النظام التربوي المغربي في ظل التحولات الطارئة على الساحتين الوطنية والدولية، تبقى مسألة بالغة الأهمية، غير أن المقاربة الشاملة للموضوع تقتضي تعميق الرؤية في أبعاده وارتباطاته المختلفة، وهذا ما يقصر عنه الحيز الزمني المخصص لهذه المداخلة.

لذلك تتغيى هذه المحاولة ملامسة الموضوع من جوانبه الأساسية قدر الإمكان، عسى أن تنوب فيها الإشارة عن العبارة، وأن يغني فيها التلميح عن التصريح. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

مقاربة المفهوم

– المقاربة اللغوية

“القيم” جمع لكلمة “قيمة”، وهي” ثمن الشيء بالتقويم..”، “وقام ميزان النهار” أي: اعتدل… و” القائم بالدين”: المستمسك به الثابت عليه… والقيِّم هو المستقيم، و”القِيَمُ”: مصدر كالصغر والكبر، وكذلك ” دين قويم وقوام”، ويقال: رمح قويم وقَوام قويم أي مستقيم.

قال كعب بن زهير:فهم ضربوكم حين جرتم عن الهدى

بأسيافهم، حتى استقمتم على القِيَمْ وقال حسان:وأشهد أنك، عند المليـــ

ــك، أرسلت حقا بدين قِيَمْوالقيمّ: الاستقامة. وفي الحديث: “قل آمنت بالله ثم استقم”، قيل هو الاستقامة على الطاعة، وقيل هو ترك الشرك 1 .

وقيمة الشيء: الثمن الذي يعادله، وقيمة الإنسان قدره 2 .

ونستنتج من هذا التحديد أن كلمة “قيم” تحمل معاني متعددة، منها القدر والاستقامة والتمسك بالدين والثبات عليه.

– المقاربة الاصطلاحية

لقد تعددت تعاريف مفهوم “القيم” تبعا للحقول المعرفية التي تشتغل عليها ، وجذورها وامتداداتها الفلسفية والاجتماعية والنفسية. فقد عرف معجم علوم التربية القيم بكونها مجموع معتقدات واختيارات وأفكار تمثل أسلوب تصرف الشخص ومواقفه وآراءه، وتحدد مدى ارتباطه بجماعته) 3 .

ويعرفها البعض بكونها مجموعة من القوانين والأهداف والمثل العليا التي توجه الإنسان سواء في علاقته بالعالم المادي أو الاجتماعي أو السماوي) 4 .

– المقاربة الإجرائية

انطلاقا من المقاربة اللغوية للمفهوم، والتي نستنتج منها أن القيم تحمل معنى الاستقامة، وبناء على معالجتنا للقيم من منظور إسلامي، فإننا نستعمل مفهوم “القيم الإسلامية”، ونقصد به شعب الإيمان الوارد ذكرها في الحديث النبوي الشريف، حيث روى الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الإيمان بضع وسبعون -عند البخاري بضع وستون- شعبة (زاد مسلم): أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان”.

أهمية القيم

نظرا لأهمية القيم التي يدعو إليها الإسلام، والتي يمكن أن تسع بظلالها الكون كله، وأن تشمل بعالميتها الإنسانية جمعـاء، فقد قرن الله عز وجل بينها وبين المعرفة بشكل عام حين قال في أول آية نزلت: اقرأ باسم ربك الذي خلق. فالقراءة ينبغي أن تكون باسم الله ، والعلم ينبغي أن يقود صاحبه إلى الإيمان الذي يملأ الوجدان بقيم الخير والمحبة والخضوع . ولذلك نفى الله عز وجل صفة العلم عن “العلماء” الذين اهتموا بعلوم الدنيا، -وهي مطلوبة على كل حال- لكن لم يكن لهم حظ من علوم الآخرة والمعاد، قال تعالى: .. ولكن أكثر الناس لا يعلمون، يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون 5 .

ما أحوج العالم إلى قيم الإسلام التي هي قيم إنسانية عالمية. إنها حاجة يعبر عنها عقلاء الإنسانية بأشكال مختلفة. يقول إدغار موران: إن العالم المتحد الذي نطمح إليه، يجب أن يكون متعدد المراكز، وغير متمركز، ليس فقط سياسيا لكن ثقافيا أيضا. فالغرب الذي بدأ يتحول إلى قرية صغيرة، يحس بحاجته للشرق، بينما نجد أن الشرق الذي يتغرب، يحرص أن يظل وفيا لذاته كشرق. صحيح لقد طور الشمال الحساب والتقنية لكنه خسر نوعية الحياة، بينما نجد أن الجنوب متخلف تقنيا لكنه حريص على مراعاة الحياة، في أشكالها المتعددة. ثمة نوع من الحوارية يجب من الآن فصاعدا، أن تعمل على خلق تكامل بين الشرق والغرب، بين الشمال والجنوب.) 6

وظائف القيم

لا يمكن لأية أمة أن تنشد التنمية الشاملة دون أن يكون لها نظام تربوي قوي بكفايتيه الداخلية والخارجية. ولا يمكن لأي نظام تربوي أن يكون كذلك، إلا بمدى قدرته على تخريج أفواج مؤمنة بقيمها وأصالتها من جهة، خبيرة مدربة في مجال العلوم والتقنيات من جهة أخرى. وذلك لأن التنمية الشاملة لا تعتمد على الكفايات والمهارات والمعارف التي يستطيع المتعلم امتلاكها فحسب، بل أيضا على القيم التي يتمسك بها وعلى المواقف والاتجاهات التي يتخذها حيال كثير من الأمور في المجتمع، ومنها حيال العمل وطبيعته والزمن واستثماره والتعاون ومداه، فعلى مثل هذه الجوانب الوجدانية والخلقية والإرادية في الإنسان، وعلى ما فيها من الإيجابيات تعتمد التنمية الشاملة إلى حد بعيد، وأهميتها قد لا تقل عن أهمية الجوانب المعرفية فيها.) 7

تصنيف القيم

بقدر ما تعددت تعاريف مفهوم “القيم”، تعددت التصنيفات بالنظر إلى المعايير المعتمدة في التصنيف، وكذا إلى طبيعة الزوايا المنظور منها إلى القيم وأنواعها.

وباعتبارنا نتحدث اليوم عن النظام التعليمي المغربي، وعن المجتمع المغربي المسلم، في ارتباط بإشكالية القيم، وانسجاما مع رؤيتنا للدين الإسلامي باعتباره عقيدة وشريعة، ودينا شاملا للشخصية في أبعادها المختلفة: الوجدانية والمعرفية والحسية والمهارية والتواصلية، وللحياة الإنسانية في مجالاتها المتعددة: العقدية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، فإنه يجدر بنا النظر إلى القيم من منظور إسلامي، خاصة أن بعض التصنيفات الغربية تجعل القيم الدينية جزءا من القيم الأخرى، انسجاما مع رؤيتها اللائيكية للدين، في حين نستنكف نحن أن نجعل الدين فرعا وهو الأصل، وأن نجعله جزءا وهو نظام الحياة الكامل الشامل لنواحيها الاعتقادية والخلقية والعملية، ففي الدين يذعن المرء لسلطة عليا هو الإله، ويقبل طاعته، ويعتقد بشريعته، ويرجو حسن الجزاء، ويخشى سوء العقاب.) 8

القيم الإسلامية: التصنيف والخصائص

نظرا لغنى القيم الإسلامية وامتداداتها في حياة المسلم، وتعدد توظيفها في مختلف مناحي الحياة، تباينت الاجتهادات في تصنيفها حسب المجالات.

ومنها تصنيف القيم الإسلامية إلى المجالات التالية 9 :

1. القيم العقائدية والتعبدية.

2. القيم الفكرية والثقافية.

3. القيم الاجتماعية والأسرية.

4. القيم التواصلية.

5. القيم الاقتصادية والمالية.

6. القيم الوقائية والصحية.

7. القيم الحقوقية.

8. القيم الفنية والجمالية.

9. القيم البيئية.

إن العقبة الأساس لا تكمن في تصنيف القيم الإسلامية إلى المجالات السابقة، بل في كيفية إكسابها للإنسان المسلم، وبأية طريقة ، وبأي منهاج؟ وهذا ما حاول الأستاذ عبد السلام ياسين الإجابة عنه عمليا من خلال مبادرته الرائدة في نظم شعب الإيمان/القيم، في سلك المنهاج النبوي، حيث قسمها إلى عشر خصال/مجالات، ووضع تحت كل صنف ما يناسبه منها ، موضحا سبل اكتسابها، واضعا أسس الارتقاء بالمسلم في مدارج الإيمان، منطلقا في كل ذلك من رؤية تجديدية للدين اعتمادا على الأصول والمصادر الشرعية. وعلى سبيل المثال، فإن خصلة التؤدة، تشتمل على شعب الإيمان التالية الصوم، القيام في حدود الله، حقن الدماء والعفو عن المسلمين، حفظ اللسان والأسرار، الصمت والتفكر، الصبر وتحمل الأذى، الرفق والأناة والحلم ورحمة الخلق، التواضع) 10 . وتشرب المؤمن لشعب هذه الخصلة، قمين بجعله يتحمل صنوف الأذى الحسية والمعنوية في سبيل تبليغ رسالته وأداء أمانته، بحكم نيابته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما تجعله متشبعا بروح التواصل والتراحم والتفاهم مع الآخر بغض النظر عن معتقده أو عرقه أو لغته، حفاظا على الأخوة الإنسانية، عسى أن يسمع هذا الآخر نداء ربه فيستجيب لهدي الإسلام وبشارة الإيمان. يفعل المؤمن ذلك كله، دون نزوع نحو العنف، ليس خوفا من سدنة الفساد في الداخل والخارج، ولكن تعبدا وامتثالا لله رب العالمين، واستنانا برفق سيد الأولين والآخرين.

ومن مميزات القيم الإسلامية أنها قيم يؤطرها المصدران الأساسيان للتشريع الإسلامي وهما القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ومن ثم فإنها تكتسب سمة الخلود، وتمتلك خاصية التكيف مع المستجدات دون فقدان خصائصها الجوهرية. كما أنها قيم يمتثل لها المسلم بوازع إيماني وليس برقابة اجتماعية أو قانونية، وذلك لما يترتب عن الامتثال لها من جزاء أخروي.

القيم الإسلامية وحقوق الإنسان

إن للإسلام منظومة متكاملة لحقوق الإنسان، قام باحثون باستخراجها من نصوص القرآن الكريم، بلغت في بعض التصنيفات خمسة وثلاثين حقا، وهي: حقوق الإنسان في عموميتها، حقوق ما في الأرحام، حق المولود، حق اليتيم، حق السائل والمحروم، حق المساكين، حق ابن السبيل، حق ذي القربى، حق الأسير، حق التربية والتعليم، حق الوالدين، حق الجار القريب والجار البعيد، حق بناء الأسرة، حقوق المرأة، حقوق الزوج على الزوجة وحقوق الزوجة على الزوج، حقوق المودة والمعاشرة الزوجية، حق المساواة بين الرجل والمرأة، حق الشيخ، حق الميت، حق المريض، حق الإنسان في العدل، حق كرامة الإنسان، حق التبني، حق اللجوء، حق استخدام الإنسان للطبيعة، حق العمل وجزاؤه، حق الهجرة والإقامة، حق الحياة، حق الدية في النفس، حقوق الأقليات، حق الحرية الدينية، حق الإنسان في حكمه بالشورى، حق الأموال والممتلكات، حق الأمن من الخوف وحق الأمن الغذائي، حق قيام الأحزاب والمعارضة) 11 .

ويسعدني في هذا المقام، أن أترك الأستاذ عبد السلام ياسين، يعبر عن تصورنا لقضية حقوق الإنسان، وما أثير حولها في العصر الراهن، من خلال فقرات منتقاة من كتابه “حوار مع الفضلاء الديمقراطيين”:

إننا نحيي الجمعيات الحرة المدافعة عن حقوق الإنسان حقا وصدقا. هذه الجمعيات غير الحكومية هي صوت الضمير الغربي الغاطس في جبروته. وهي المحاور المنتظر للإسلام، عسى تكون لمروءتها أذن تسمع يوما نداء الإسلام إلى حقوق الإنسان كاملة غير منقوصة، أرضية سماوية، تمنع تعذيب الإنسان في الدنيا وتعريضه لعذاب الآخرة (ص 210).

أصبح لنداء حقوق الإنسان… استجابة عالمية. يهفو المظلومون والمقهورون إليه متطلعين للعدل والكرامة والإنصاف والحرية، وما هذا النداء الكريم… إلا المروءة الكبرى التي ينبغي أن يجتمع عليها بنو الإنسان ويجعلوها ميثاقا لإنسانيتهم (ص 210).

كلمتنا أننا ننكر أشد الإنكار ونشمئز أشد الاشمئزاز من تفخيخ الطائرات وقتل الأبرياء والعدوان على أهل الأمان (ص 213).

الأصل في تعايش أهل الأرض الأمان. والاستقرار العالمي مطلب لنا عزيز. ذلك أننا لنا دعوة نريد أن نبلغها للعالمين. وهي دعوة رفق لا عنف، وصدق لا نفاق، وترغيب لا ترهيب، واختيار لا إكراه. وأفضل مناخ لتبليغ رسالتنا هو السلام في العالم والتواصل والتعارف والرحمة (ص 213-214).

يقول السجل التاريخي إن المسلمين ما كانوا قساة ولا جفاة ولا جلادين للشعوب يوم برزوا بتلك القوة على مسرح العالم. ما دخل الناس في دين الله تحت طائلة السيف، بل حبب إليهم الإسلام فضائل الإسلام، وحبب إليهم الإسلام رفق المسلمين بهم وعدلهم واحترامهم لحقوق الإنسان (ص 214).

رأس حقوق الإنسان عندنا، وأم الحريات، ومنبع الكرامة، تحرير الإنسان من كل عبودية غير العبودية لله رب العالمين لا شريك له. ومن حقه في معرفة ربه وخالقه تنبثق سائر الحقوق. بمعرفته لله رب العالمين وربه يكون حق الآخرين عليه واجبا دينيا يؤديه بإخلاص ووفاء، عبادة يعبد بها ربه، لا تعاملا مع القانونية البشرية (ص 216).

إن روح الأخوة الإنسانية تفرض على المؤمن أن يسلم الناس من شره. وتفرض عليه أن يريد الخير لنفسه ولغيره. وتفرض عليه أن يدرس نفسيات “الكائنات البشرية” وذهنياتها وتاريخها ليصوب خطابه إليها. ويبلغ الرسالة، ويؤدي الأمانة، ويأخذ حذره (ص 224).

حقوق الإنسان صرخة مروءة عند الفضلاء من كل ملة، ولعبة سياسية، وقانونية ضرورية للاستقرار الدولي، وذريعة لتدخل القوى الكبرى في البلاد الضعيفة، وكيل بمكيالين (ص 239).)


[1] انظر لسان العرب، ابن منظور، مادة “قوم”.\
[2] المعجم العربي الأساسي، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، مادة “قيمة”.\
[3] سلسلة علوم التربية،العددان 9-10، الجديدة، دار الخطابي، ص: 359.\
[4] الهادي عفيفي محمد، الأصول الفلسفية للتربية، مكتبة الانجلو مصرية، 1978، ص: 286.\
[5] سورة الروم الآيتان 5-6.\
[6] ادغار موران، تربية المستقبل، ترجمة عزيز لزرق، ومنير الحجوجي، منشورات اليونسكو، 2002، ص: 71.\
[7] الشريف محمد احمد وآخرون، تقرير استراتيجية تطوير التربية العربية، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، بيروت، دار الريحاني للطباعة والنشر، 1979، ص: 300.\
[8] أبو الأعلى المودودي، المصطلحات الأربعة في القرآن الكريم، ص: 130.\
[9] خالد الصمدي، القيم الإسلامية في المناهج الدراسية، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم، الرباط، مطبعة المعارف الجديدة، 2003، ص: 36.\
[10] انظر كتاب: “المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا”، للأستاذ عبد السلام ياسين، 1989، ص: 300-316.\
[11] عبد الهادي بوطالب: “إسهام المعتقدات والديانات السماوية في ترسيخ قيم حقوق الإنسان”، مجلة عالم التربية، العدد 15، ص: 53.\