المدرسة والقيم: أية علاقة؟
عاملان أساسيان كانا دوما يتحكمان في توجيه المدرسة ورسم أهدافها وخططها، وهما العامل الديني والعامل السياسي. بل إن حركة التاريخ الإنساني تشهد أن العامل الديني من أضخم القوى المؤثرة في الحياة الإنسانية بشكل عام. وقوة بهذا التأثير لابد أن تنعكس على المدرسة ورسالتها. ومن هذا المنطلق، فإن التربية المدرسية تعكس الانتماء الديني والقيمي للمجتمعات حتى في أكثر الدول تعصبا للعلمانية. ففي الولايات المتحدة تشير الإحصائيات إلى أن حوالي 90% من السكان يحصلون على تربية دينية موزعة على أربع سنوات 1 .
وبعد قيام دولة إسرائيل في فلسطين المحتلة ركزت في تربيتها على منهاج مدرسي بموجبه تم تخصيص خمس الحصص الدراسية لدراسة “التوراة”. هذا في المدارس المدنية. أما في المدارس الدينية، فتدرس “التوراة” في إحدى عشرة حصة من أصل أربع وعشرين، بل إن إسرائيل المحتلة تعمل على صبغ كل المواد ومنها التاريخ والأدب بالصبغة اليهودية.
ورغم أن بعض الدول تتبنى أنظمة علمانية، فإنها تتحمس لتدريس التربية الدينية في مناهجها. ومن الأمثلة على هذه الدول التي يدرس طلبتها في المدارس الحكومية تربية مسيحية فنلندا والنرويج وايطاليا واسبانيا، وكذلك معظم بلدان أمريكا اللاتينية .
وعندما يتساكن في بعض الدول مواطنون يدينون بشرائع مختلفة، فإن الكثير من الدول تراعي هذا التباين الديني، فمثلا كندا تلزم الطلبة بدراسة التربية الدينية في ثلاث مقاطعات، وتسمح بتدريسها في ثلاث مقاطعات أخرى، وتحظر تدريسها في مقاطعتين، وتدرسها بصفتها مواد اختيارية في مقاطعتين 2 .
وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن رئيس الدولة يقسم اليمين الدستوري على الإنجيل، وتفتتح دورات الكونغريس بتلاوة نصوص من الكتاب المقدس، كما تظهر عبارة “نثق بالله” على النقد الأمريكي. بل إن الرئيس الأسبق رونالد ريغان أيد اقتراحا يتضمن إعادة الصلاة في المدارس.
نستنتج من ذلك أن جميع الأمم تحترم في أنظمتها التربوية خصوصياتها الدينية واللغوية، وأن التربية المدرسية ترتبط ارتباطا واضحا بقيم المجتمع. فالمدرسة إذن مؤسسة اجتماعية متخصصة أنشأها المجتمع لتربية أفراده وتعليمهم. ولتقوم بوظيفتها الحقيقية، ينبغي أن تمتلك المشروعية الاجتماعية، ولن يتأتى لها ذلك إلا إذا تولدت لدى أفراد المجتمع قناعة بأنها تخدم أهدافهم واحتياجاتهم.
اللغة والقيم
تعد مسألة اللغات بمثابة عامل بنيوي لأزمة المدرسة المغربية، بسبب عدم ملاءمة الخيارات المنتهجة في هذا المضمار، سواء تعلق الأمر بلغات التدريس أو بتدريس اللغات. وهي خيارات يترجمها ضعف إتقان التلاميذ والطلبة للغات 3 .
إن الطفل المغربي يعيش تمزقا لغويا بالمؤسسات التعليمية، بموجبه تختلط عليه القيم التي يحملها التعدد اللسني. إنه يعاني من ازدواجية لغوية تكاد تقترب من طريقة شارل الخامس، الذي أقر بأن الإسبانية ينبغي أن توظف في مخاطبة الإله، والإيطالية في الحديث إلى النساء، والفرنسية في الحديث إلى الرجال، والألمانية في التوجه إلى الجياد) 4 .
إن مزاحمة اللغة الفرنسية للغة العربية، وبالغلاف الزمني المحدد لها، له خطورة على النمو اللغوي والمعرفي بما يمثل من انعكاسات سلبية نتيجة الازدواجية اللغوية. ويكفي أن نقدم الجدول التالي لنقارن عدد الساعات التي يدرسها المتعلم المغربي سنويا في كل من اللغة العربية واللغة الفرنسية، في السلك المتوسط من التعليم الابتدائي (المستويات الثالث الرابع والخامس والسادس) 5 :
لاشك أن هذه الوضعية لها خطورة كبيرة على المتعلم المغربي في أبعاد شخصيته المختلفة، لذلك أكد الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري أن أي تعليم لغوي متعدد (مقترن بتعدد لهجي)، ينبغي أن يقوم أولا على تمكين الطفل المغربي من اكتساب اللغة الوطنية الرسمية. عبر إغماس مبكر، لتلافي الانعكاسات السلبية للازدواجية على النمو اللغوي والمعرفي، والشروع في تعليم اللغة أو اللغات الأجنبية في سن لاحقة متأخرة (ابتداء من الثانية عشرة، أو التاسعة في أحسن الظروف)، بعد أن يكون الطفل قد ضلع في لغة هويته وفكره وثقافة مجتمعه بصفة كافية، لا تعيق نموه، ولا تتسبب في اضطراب قدراته) 6 .
تشخيص إجمالي لوضعية النظام التعليمي المغربي
إن من أكبر العوائق التي تحول دون التشبع بالقيم المنشودة هو الوضعية الحالية “الكارثية” التي يعيشها النظام التعليمي المغربي، والتي عبر عنها السيد وزير التربية الوطنية أمام السادة مديري الأكاديميات ونواب الوزارة يوم 16 فبراير 2006 بقوله: ولكي ننطلق من التفكير في توفير الشروط، ونتفق على ما يجب القيام به في أفق الدخول التربوي القادم، لابد من استحضار ما عشناه جميعا بمناسبة الدخول (المدرسي) السابق. لقد تابعتم، أنتم نساء ورجال الميدان، وبكيفية ملموسة، كل الأطوار التي جعلت بدون شك من الدخول التربوي السابق دخولا صعبا، وتميزت، بصفة عامة، بارتباك كبير رغم تفاوته).
ونقتطف شهادة أخرى، من تقرير التنمية البشرية الذي أشار إلى عمق الأزمة التي يعاني منها نظامنا التعليمي، ذلك أن مع بداية الثمانيات، بدأت المنظومة التربوية في التراجع، لتدخل بعد ذلك، في أزمة طويلة، من بين مؤشراتها: الهدر المدرسي، وعودة المنقطعين عن الدراسة إلى الأمية، وضعف قيم المواطنة، ومحدودية الفكر النقدي، وبطالة حاملي الشهادات، وضعف التكوينات الأساسية (القراءة، الكتابة، الحساب، اللغات، التواصل)) 7 .
ولعل الاختلالات التي يشهدها نظامنا التعليمي، والتي تعترف بها الوزارة 8 ، لا يمكن إلا أن تكون عقبة كأداء في وجه استنبات واستضمار القيم المنشودة في فضاء المؤسسات التعليمية. ومن هذه الاختلالات:
– هشاشة البنيات الأساسية للمؤسسات التعليمية؛
– ضعف التكوين الأساسي والمستمر للموظفين؛
– العجز في التنظيم الديداكتيكي والمادي للأنشطة التكوينية والابتكارية؛
– قلة المبادرات المندمجة المتخذة لحد الآن لضمان جودة متساوية ومتكافئة في التربية بين الوسطين القروي والحضري؛
– الاكتظاظ بالأقسام بسبب العجز في توسيع الطاقة الاستيعابية للمؤسسات التعليمية، ونتيجة المغادرة الطوعية؛
– ضعف الاعتمادات اللازمة لإصلاح وترميم المؤسسات التعليمية؛
– قلة الوسائل التعليمية بالمؤسسات التعليمية؛
– مشكل النقص الكبير في تعويض المتلاشى من الأثاث والتجهيزات المدرسية؛
– نقص في عدد المطاعم المدرسية حيث لا يستفيد منها سوى 51 في المائة من المدرسين بالعالم القروي؛
– قلة المنح الدراسية المخولة لتلاميذ التعليم الثانوي الإعدادي بالوسط القروي وخاصة الفتيات؛
– ضعف مردودية النظام التربوي بسبب الهياكل التنظيمية التي تعتمد غالبا في التدبير العملي على احترام دقيق للمساطر والتوجيهات عوض الاعتماد على النتائج والتأطير والمراقبة.
– ضعف تأثير أنشطة الشراكة والتعاون.
وعموما، يمكن القول إن أهم العوائق التي تحول دون اكتساب القيم الإيجابية في فضاء المؤسسات التعليمية المغربية، منها ما يرتبط بطرق تدبير التربية والتعليم (البيروقراطية، تركيبة المجالس الإدارية للأكاديميات وبطء التسيير، أعباء الإدارة المدرسية، الأعباء الاجتماعية، …)، ومنها ما يرتبط ببنية المؤسسات (الحجرات الدراسية، التجهيزات، فضاءات الأنشطة الموازية..)، ومنها ما يتعلق بالعنصر البشري (التكوين الأساسي والمستمر، القدوة، الاقتناع بالقيم وطبيعتها، القدرة على الإقناع،…)، ومنها ما يرتبط بالمنهاج الدراسي (عدم الانسجام والتكامل بين المواد الدراسية، الازدواجية اللغوية، كثرة المواد الدراسية،…).
مقترحات لتجاوز معيقات اكتساب القيم الإيجابية بالمؤسسات التعليمية
بداية نشير إلى أن الأزمة العامة التي يشهدها المغرب، ومنها أزمة النظام التعليمي المغربي الذي عجز عن تحقيق الآمال المعقودة عليه، ومنها قصور مؤسساته في إكساب الناشئة القيم الإيجابية المنشودة، والمنسجمة مع ثوابت المجتمع المغربي، أزمة لا يمكن حلها إلا باعتماد المداخل الأساسية للإصلاح الشامل، ومنها فتح حوار وطني يشارك فيه الجميع دون إقصاء، والاتفاق على ميثاق جامع يوحد الجهود وتتعبأ حوله الطاقات، يعقبه وضع دستور جديد ثم انتخابات نزيهة تفرز حكومة قادرة على التغيير الشامل.
وفي أولويات هذا التغيير، يحتاج نظامنا التربوي إلى:
رؤية: مناسبة، سليمة، واضحة، مشتركة.
خطط: واقعية، مهنية لكل المستويات.
التزام: سياسي، اجتماعي، مهني، مالي.
تقويم: “للمدخلات، العمليات، المخرجات، النواتج” وفق معايير وأدوات مناسبة، ومنهجية علمية.
محاسبة: للأفراد، والمؤسسات.
وذلك من أجل اكتساب القيم في فضاء مدرسي يشارك فيه:
متعلم: نشط مشارك في عملية التعليم والتعلم.
منهج: مناسب للمتعلم وحاجات المجتمع والمتطلبات العالمية.
أستاذ: عارف بمادته، مجيد لطرائق التعلم المناسبة، قادر على تشخيص حالة تلاميذه، ماهر في تقويم تحصيلهم، موجه فاعل لسلوكهم.
بيئة تعلم: آمنة (فكريا ونفسيا، واجتماعيا، وجسديا) وحافزة على التعلم.
مدرسة: فاعلة إداريا وتربويا.
مجتمع: مشارك للمؤسسة التربوية، واثق بمردوديتها، غير معيق لها، مقوم موضوعي لمخرجاتها.
حكومة: ملتزمة سياسيا وماليا وتنظيميا.
في انتظار تحقق ذلك الأمل، نقترح على نظامنا التعليمي، من أجل الاهتمام بالجانب القيمي في مؤسساتنا التربوية، المسكِّنات التالية:
– القيام بدراسة حول القيم الإسلامية وما يندرج تحتها من قيم التواصل والتساكن والتعايش، ومختلف القيم المستحدثة المتوافقة مع روح الشريعة الإسلامية، تتوخى الجرد والتصنيف من جهة، ثم رسم خطة تتوخى الدمج المتدرج للقيم في المناهج الخاصة بمختلف المستويات الدراسية.
– استحضار القيم الإسلامية عند تحديد شروط التأليف المدرسي في دفاتر التحملات.
– تضمين القيم المستهدفة، في الأطر المرجعية التي يعدها المركز الوطني للامتحانات لاعتمادها ضمن عناصر التقويم.
– إشراك مؤسسات المجتمع المدني في تخطيط المناهج الدراسية للإفادة من قوتها الاقتراحية، وذلك عند تحديد شروط التأليف المدرسي، وأيضا في لجان المصادقة والتقويم.
– تفعيل لجان المجالس الإدارية للأكاديميات بما يكفل الاهتمام بالشأن القيمي في المؤسسات التعليمية.
– تخصيص جزء من الميزانيات المرصودة للأكاديميات، لتتبع ومراقبة مدى حضور واحترام القيم بمؤسسات التربية في تراب الجهات.
– تخصيص جزء من ميزانيات الاستغلال المفوَّضة للنيابات لمراقبة المؤسسات التربوية التابعة لها في مجال القيم.
– ضرورة تعميم مراصد القيم في كل المؤسسات التعليمية، مع اختيار أفضل العناصر المشهود لها بعنصري الأمانة الخلقية والكفاءة المهنية، للإشراف على هذه المراصد.
– تفعيل الأنشطة الموازية وتنشيط مختلف الأندية، بما يكفل انفتاح المؤسسات التربوية على محيطها المحلي والوطني والدولي.
– تفعيل الشراكة بين المؤسسات التربوية الوطنية وبين المؤسسات الأجنبية في إطار التبادل الثقافي بما يكفل الانفتاح والتواصل المبني على احترام الخصوصيات ودعم القيم المشتركة.
– تحرير اللغة العربية من الضيم والمزاحمة من قبل اللغات الأجنبية في السنوات الثلاث الأولى من التعليم الابتدائي لترسيخ أقدام الناشئة في أرض لغتهم العربية، لغة دينهم ورمز هويتهم.
– الحرص على ربط المضمون القيمي بالممارسة داخل المؤسسات التعليمية، وربط الفكر بالسلوك على جميع المستويات.
– مراقبة مدى احترام المناهج الدراسية المعتمدة، من قبل جميع المؤسسات التربوية بما فيها مؤسسات التعليم الخصوصي التي يعمد بعضها إلى استعمال كتب مدرسية أجنبية بما تتضمن من حمولة وقيم حضارية، لا تمت إلى قيم المجتمع المغربي بأصل، ولا تمتد إليه بوصل.
– اتخاذ مختلف الاحتياطات اللازمة أثناء الاقتباس من الآخر، وذلك بضرورة التأمل والنقد، قبل الانتقاء المؤسس على الانسجام مع قيمنا وأصولنا.
– الحرص على تدريب العقول بتنمية مهارات التفكير العلمي بالموازاة مع تربية القلوب على الإيمان بالقيم الإسلامية وممارستها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[2] المرجع في مبادئ التربية، مرجع سابق، ص 489.\
[3] تقرير اللجنة الوطنية للتربية والتكوين ، ص:37.\
[4] عبد القادر الفاسي الفهري، اللغة والبيئة ، منشورات الزمن، 2003 ، ص:18-19.\
[5] انظر الكتاب الأبيض، ج:2، المناهج التربوية لسلكي التعليم الابتدائي، 2002(الغلاف الزمني السنوي للمواد)، ص:19.\
[6] اللغة والبيئة، مرجع سابق، ص: 19.\
[7] تقرير التنمية البشرية خلال 50 سنة، ص: 15.\
[8] انظر وزارة التربية الوطنية، مغرب التربية، 2004.\