التعليم بالمغرب وإشكالية القيم2/3

Cover Image for التعليم بالمغرب وإشكالية القيم2/3
نشر بتاريخ

النظام التربوي المغربي وإشكالية القيم

إن المتعلم لا يكتسب القيم من المدرسة فقط، بل من كل الوسائط التربوية الأخرى كالأسرة، ووسائل الإعلام والاتصال، والأقران، والشارع.

صحيح أن المدرسة بيئة تنشيئية أساسية، وفضاء رئيس لإكساب القيم الإيجابية، لكن المسؤولية تبقى مشتركة بين جميع البيئات المتدخلة في التربية.

وبما أن المدرسة مسؤولة إلى درجة كبيرة عن إكساب القيم الإيجابية للمتعلمين، والقيم انعكاس للمثل العليا والمبادئ التي يتمسك بها المجتمع، فإن مدى المشروعية المجتمعية لنظامنا التعليمي يبقى موضع تساؤل.

– النظام التعليمي المغربي وسؤال المشروعية الاجتماعية

يمثل المغرب نموذجا من نماذج الحكم الجبري، الذي تنفرد فيه السلطة السياسية بأهم القرارات، ومنها القرار في الشأن التربوي. ولعل من يقرأ تاريخ الإصلاحات التعليمية بالمغرب يدرك لا محالة هذا الأمر رغم ما تم إحداثه من مؤسسات ولجان، الغرض منها امتلاك نصيب من المشروعية. فمنذ أن استقل الشعب المغربي، والسلطة السياسية تدير رحى الإصلاحات في غير الاتجاه الذي يخدم المجتمع، والذي تعبر عنه الأصوات الحرة.

وسأكتفي بإيراد ثلاثة أمثلة عن انفصام القرار التربوي عن السلطة المجتمعية:

– المثال الأول:

عرفت سنة 1970 ثلاثة أحداث مهمة:

– إحداث المجلس الأعلى للتعليم: والذي من المفترض أن تكون له السيادة في القرار التربوي باعتباره- تجاوزا- ممثلا للمجتمع. لكن واقع الأمر يشهد أن هذا المجلس لم يقم بأي دور في”الإصلاحات التعليمية” إلى أن تم حله في عهد الملك الجديد، واسْتُبْدِلَ به مجلس آخر.

– مناظرة إفران الأولى، والتي لم يتمخض عنها عمليا أي شيء.

– صدور بيان يندد بالسياسة التعليمية للدولة، والتي سارت في ركاب طمس الهوية الإسلامية اللغوية للشعب المغربي. وقد وقع على هذا البيان خمسمائة شخصية تمثل جميع ألوان الطيف السياسي والنقابي والعلمي والثقافي والفكري.

ونقتطف من هذا البيان الفقرات الآتية:

يواجه المغرب منذ حصوله على الاستقلال سنة 1956، وبصفة خاصة منذ عشر سنوات، ضغطا استعماريا خفيا يرمي لإقرار وتثبيت وتعميم الوجود اللغوي الفرنسي في المغرب المستقل…

وبالرغم من المعركة التي خاضتها المؤسسات العلمية والثقافية والنقابية والأحزاب الوطنية في المغرب بعد الاستقلال، وخاصة منذ المناظرة التاريخية التي نظمتها الدولة حول التعليم بمركز معمورة سنة 1964، تلك المعركة التي كانت تهدف إلى تحويل المؤسسة التعليمية الفرنسية التي خلفتها الحماية، إلى مؤسسة وطنية عربية اللغة، مغربية الروح والشخصية والأطر، فقد باءت بالفشل كل تلك الجهود، وبقيت المبادئ التي أجمعت عليها الأمة حبرا على ورق…)

وقد خرج البيان بمجموعة من التوصيات والمطالب منها:

– تقوية القيم الإسلامية والخلقية.

– التعريب الكامل للتعليم والإدارة والعمل والشارع.

– وضع المبادئ الأربعة المجمع عليها موضع التنفيذ.

ورغم قوة لهجة البيان، وتوقيعه من قبل كل المكونات الرمزية(أمناء الأحزاب، مثقفون …) فإن السلطة المخزنية لم تتراجع عن سياستها، والتي أعلنت عن فشلها وما تزال.

– المثال الثاني:

تكونت لجنة سميت اللجنة الوطنية المكلفة بقضايا التعليم بموجب رسالة ملكية، وبدأت أشغالها في 2 غشت 1994، وأنهتها في 30 ماي 1995. وقد كانت لجنة موسعة تضم ثمانين برلمانيا ومئتين وخمسين تقنيا. وأيًّا ما كان اختلافنا معها في جزئية من الجزئيات، أو أولوية من الأولويات، فإنه من الإنصاف أن نقر أن هذه اللجنة قامت بمجهود طيب يعيد الاعتبار لأحقية المجتمع بقراره التربوي. حيث كانت أعمال هذه اللجنة منسجمة مع أهم المطالب الاجتماعية في المجال التربوي. لكن هذه الأعمال لم ترق السلطة السياسية فتم إقبارها. وتم إحداث اللجنة الخاصة بالتربية والتكوين على أنقاضها.

– المثال الثالث:

تم تشكيل اللجنة الملكية الخاصة بالتربية والتكوين، والتي حرصت السلطة السياسية أن تشتمـل على تمثيلية كل المكونات الحزبية والنقابية، لكن هذه اللجنة لجنة غير دستورية وفاقدة لأي مصداقية اجتماعية. ولذلك فقد أنتجت ما يسمى “ميثاق التربية والتكوين”، الذي تعد بعض فقراته قمة في الاستخفاف بأصالة وهوية الشعب المغربي المسلم، والذي لم يكن استجابة لحاجات المجتمع بقدر ما كان تجاوبا مع إملاءات البنك الدولي.

ولعل هذه الأمثلة غيض من فيض، مما يؤشر إلى استفراد السلطة المخزنية بالشأن التعليمي، وبالتالي ضعف العلاقة بين التربية والمجتمع، لافتقاد القرارات التربوية للمصداقية الاجتماعية.

– القيم من خلال مستجدات نظام التربية والتكوين بالمغرب

انطلاقا من “الميثاق الوطني للتربية والتكوين”، فإن الاختيارات التربوية المؤطرة لمراجعة مناهج المدرسة المغربية، تنطلق من مجموعة من المحددات، وهي:

اعتبارا للفلسفة التربوية المتضمنة في الميثاق الوطني للتربية والتكوين، فإن الاختيارات التربوية الموجهة لمراجعة مناهج التربية والتكوين المغربية، تنطلق من:

– العلاقة التفاعلية بين المدرسة والمجتمـع، باعتبار المدرسة محركا أساسيا للتقدم الاجتماعي وعاملا من عوامل الإنماء البشري المندمج.

– وضـوح الأهداف والمرامي البعيدة من مراجعة مناهج التربية والتكوين، والتي تتجلى أساسا في:

* المساهمة في تكوين شخصية مستقلة ومتوازنة ومتفتحة للمتعلم المغربي، تقوم على معرفة دينه وذاته، ولغته وتاريخ وطنه وتطورات مجتمعه.

* إعداد المتعلم المغربي لتمثل واستيعاب إنتاجات الفكر الإنساني في مختلف تمظهراته ومستوياته، ولفهـم تحولات الحضارات الإنسانية وتطورهـا.

* إعداد المتعلم المغربي للمساهمة في تحقيق نهضة وطنية اقتصادية وعلمية وتقنية تستجيب لحاجات المجتمع المغربي وتطلعاته.

– استحضار أهم خلاصات البحث التربوي الحديث في مراجعة مناهج التربية والتكوين باعتماد مقاربة شمولية ومتكاملة تراعي التوازن بين البعد الاجتماعي الوجداني، والبعد المهاراتي، والبعد المعرفي، وبين البعد التجريبي والتجريدي كما تراعي العلاقة البيداغوجية التفاعلية وتيسير التنشيط الجماعي.

– اعتماد مبدإ التوازن في التربية والتكوين بين مختلف أنواع المعارف، ومختلف أساليب التعبير (فكري، فني، جسدي)، وبين مختلف جوانب التكوين(نظري، تطبيقي عملي).

– اعتماد مبدإ التنسيق والتكامل في اختيار مضامين المناهج التربوية، لتجاوز سلبيات التراكم الكمي للمعارف ومواد التدريس.

– اعتماد مبدإ التجديد المستمر والملاءمة الدائمة لمناهج التربية والتكوين وفقا لمتطلبات التطور المعرفي والمجتمعي.

– ضرورة مواكبة التكوين الأساسي والمستمر لكافة أطر التربية والتكوين لمتطلبات المراجعة المستمرة للمناهج التربوية.

– اعتبار المدرسة مجالا حقيقيا لترسيخ القيم الأخلاقية وقيم المواطنـة وحقوق الإنسان وممارسة الحياة الديموقراطية.

ولتفعيل الاختيارات والتوجهات التربوية العامة التي أعلن عنها الكتاب الأبيض، اعتمد مجالا القيم والكفايات مدخلا بيداغوجيا لمراجعة مناهج التربية والتكوين. وفيما يلي الاختيارات والتوجهات المعتمدة في مجال القيم:

انطلاقا من القيم التي تم إعلانهـا كمرتكزات ثابتة في الميثاق الوطني للتربية والتكوين، والمتمثلة فـي:

– قيـم العقيدة الإسلامية.

– قيـم الهوية الحضارية ومبادئها الأخلاقية والثقافية.

– قيـم المواطنـة.

– قيـم حقوق الإنسان ومبادئها الكونيـة.

وانسجاما مع هذه القيم، يخضع نظام التربية والتكوين للحاجات المتجددة للمجتمع المغربي على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي من جهة، وللحاجات الشخصية الدينية والروحية للمتعلمين من جهة أخرى.

ويتوخى من أجل ذلك، الغايات التالية:

– ترسيخ الهوية المغربية الحضارية والوعي بتنوع وتفاعل وتكامل روافدها.

– التفتح على مكاسب ومنجزات الحضارة الإنسانية المعاصرة.

– تكريس حب الوطن وتعزيز الرغبة في خدمته.

– تكريس حب المعرفة وطلب العلم والبحث والاكتشاف.

– المساهمة في تطوير العلوم والتكنولوجيا الجديدة.

– تنمية الوعي بالواجبـات والحقوق.

– التربية على المواطنة وممارسة الديموقراطية.

– التشبع بروح الحوار والتسامح وقبول الاختلاف.

– ترسيخ قيم المعاصرة والحداثة.

– التمكن من التواصل بمختلف أشكاله وأساليبه.

– التفتح على التكوين المهني المستمر.

– تنمية الذوق الجمالي والإنتاج الفني والتكوين الحرفي في مجالات الفنون والتقنيات.

– تنميـة القدرة على المشاركة الإيجابية في الشأن المحلي والوطني.

ومن الملاحظات الأساسية التي يمكن إبداؤها في هذا السياق، عدم إقدام “الكتاب الأبيض” على إعطاء تعريف للقيم على غرار عدم تعريفه للكفايات. كما أنه لم يقدم مبررا على تقسيمه الرباعي للقيم، ولماذا هذا التجزيء الذي يفيد أن القيم الإسلامية معزولة عن القيم الأخرى كالمواطنة وحقوق الإنسان.

وفي نفس السياق يلاحظ الأستاذ الدريج تراجعا واضحا بخصوص الدعوة إلى الالتزام بتوظيف القيم في تحضير الدروس وبرمجة المواقف التعليمية والمجزوءات داخل الكتاب، والذي كانت قد أوصت به اللجان من قبل في الوثائق التمهيدية للكتاب الأبيض. كما يلاحظ سكوت الكتاب الأبيض عن البيانات التي انتهت إليها اللجنة “البيسلكية” ولجنة الاختيارات والتوجهات التربوية، في عملها الجاد لتفصيل قوائم القيم وتدقيق الارتباطات العامة بين أنواع القيم والكفايات، وكذا الارتباطات العامة بين المقاييس الاجتماعية والكفايات. كما سكت دفتر التحملات الإطار عن كل ذلك.

أما على المستوى التنظيمي، فكان على “القيم”، أن تنتظر إلى حدود سنة 2006، حيث أصدرت وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، المذكرة الوزارية رقم 88 بتاريخ 05/06/2006، وذلك من أجل إحداث وإرساء هياكل “مرصد القيم”، غير أنه على المستوى الإجرائي، لم يتم تحقيق المنتظرات المعلنة، في الوقت الذي تشهد فيه المدرسة المغربية من أشكال العنف والانحلال ما يؤكد شبه استقلال للنظام التربوي المغربي عن وظيفته الأخلاقية.