إن التنمية التي يتوجب أن ينشدها المرء، هي تنمية تشيد له صرحا قويا لإرادته لتنجيه من نزوات النفس وشهواتها وتعينه على معرفة معنى وجوده، وكل هذا في إطار مشروع مجتمعي قوامه القرآن الكريم والمحجة اللاحبة، يكون نبراسا تستنير به الإرادة الفردية والجماعية على حد سواء وفق رباط إيماني وثيق، واقتناع بموعود الذي لا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه.
إن النظر إلى موضوع التنمية يقتضي التسلح بإيواليات تحليلية تقي الناظر الوقوع في مغبة الاختزالية والرؤية القاصرة، فما أحوجنا إذن إلى إطار نظري ومفاهيمي مؤثل على أساس مكين ومؤطر بأصالة الشرعة والمنهاج، إذ هذه الأهمية أملتها علينا ضرورة الاحتراز من التصورات المؤدلجة التي أسست لفكر مادي يخاطب الإنسان كجثة مادية تفنى بفناءه، وأخرى لا تعير للأشر والبطر بصيصا من الاهتمام والاكتراث، معتقدة أن التنمية تتأتى وفق إصلاحات سياسية صرفة فحسب.
إن هذه الهوة القائمة بين التنمية كوجود فكري والتنمية كوجود في الواقع الإمبريقي يستدعي الأمر رأبها بوضوح فكري تام، يكون شاملا لكل قضايا الإنسان بدون استثناء، ومن ثمت يمكن أن يكون نظرنا لموضوع التنمية لاحبا وشاملا.
فما عرفه تاريخ الأمة من انكسار تاريخي لا يمكن التنكف عنه لبلورة تصورات بديلة في قضية التنمية، وإلا فكل حديث بغير ذلك الأساس سيفضي بنا إلى سياسة القاع المخروم والتدبير المبتور في إرادة أصحابه ورواده، فنجاح التنمية في المجتمع قمينة بتموقعها النظري والواقعي في مشروع مجتمعي قائم على قسمة الأرزاق بشكل عادل ووفق قناعات تربوية تقويه، تنأى بالفرد عن عنجهية نفسه وأنانيتها المستعلية وخمولها المفضل.
فقد يتساءل متسائل عن أي تنمية أتحدث في هذا الموضوع؟
أخي القارئ، أختي القارئة، ضعها في أي محل تريد، فالمسألة ليست في المجال ولا في الألوان التي تتسربل فيها، والأشكال التي تتدثر بها، لكن في المرتكزات التي تقوم عليها.
لا يتنكب جند الله دور الأسس اللوجستيكية المادية، ولا العمل بالأسباب التدبيرية والتخطيطية، ولكن ماذا ننتظر من قاع مخروم؟ وماذا عن مياه بركة منبعها معكر بالشوائب والأسمال؟
إن التخطيط والتدبير بما هما أسلوبان لا يمكن تخطيهما لتشييد صرح تنمية حقيقية، يلزم أن يكونا مؤطرين بإرادة واعية وفعل مسؤول، مقودهما علم منهاجي يقرأ الواقع على ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ويجيب عن كل التساؤلات التي تعج بها الساحة المجتمعية، ويصحح مسار الحركة التاريخية صوب الوجهة الصحيحة.
إن التنمية بهذا الأساس تترجم حقيقة وجود الإنسان، وتدله على طريق معرفة الله عز وجل، وكل فعل تنموي له بعد قيمي وتربوي يخدم هذا الهدف ويغذيه.