جماعة “العدل والإحسان” حركة إسلامية، يلخِّص اسمها برنامجها في النظر والعمل، وكونها حركة إسلامية يستوجب عند تقييمها تجلية مسألة مدى تمثلها للنصوص التأسيسية التي جاءت في القرآن والسنة، من حيث الوفاء للمبادئ أولا، ومن حيث التأويل والتفسير الذي تعتمده لتلك النصوص، هل تسلك في ذلك مسالك الحرفية والجمود؟ أو مسالك الاجتهاد الذي يراعي فقه المآلات والمقاصد، ومن حيث العلاقة مع المكونات التي تخالفها في المرجعية: هل يتسع صدرها للخلاف والمخالفين؟ هل تسعى إلى تقليص دائرة العداوات أو إلى توسيعها؟ ما مدى قبولها لحرية الرأي والتعبير داخل صفوفها وخارجها؟ كل هذا يدفع دفعا إلى إثارة قضية تصور “العدل والإحسان” لمفهوم الحرية لاسيما الحرية السياسية التي ترتبط بحركية الواقع، وحرية العقيدة التي ترتبط بالدين والضمير أساسا.
ولا يكفي استعراض النصوص لتقريب المسألة، بل يتعين الرجوع إلى التاريخ لاستنطاق وقائعه وأحداثه، واستخلاص دروسه وعبره، وهذا المنحى الذي يرجع إلى الأصول والمنطلقات اعتمده مرشد الجماعة الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله، وفي مسألة “الحرية السياسية والعقدية” تحديدا مهد للقول فيها بقراءة نقدية للتراث الفقهي والتربوي والسياسي والكلامي للمسلمين، قبل أن يقترح الحلول، ويقدم البدائل، ولأن الأسباب التي أدت إلى غياب الحرية ترتبط بالبيئة الإسلامية العامة منذ ظهور الإسلام إلى اليوم، كان لزاما التنبيه على تلك الأسباب قبل أي شيء آخر، وندير الكلام عن كل هذا على سبعة محاور.
المحور الأول: مزاج دولي امبراطوري شمولي
قبل ظهور الإسلام اقتسمت السيطرة على العالم دولتان عظيمتان هما الدولة البيزنطية الرومانية، والدولة الفارسية الساسانية، كانتا تحيطان بالجزيرة العربية وتطوقانها، واصطنعت كل دولة لها كيانا عربيا وظيفيا يخدم مصالحها، فالكيان الذي كان يتبع للروم هم الغساسنة، والذي كان يتبع للفرس هم المناذرة، وكثيرا ما كان الكيانان يدخلان في حروب دموية طاحنة بالوكالة عن الروم والفرس، الذين كان يحكمهم نظام ملكي وراثي استبدادي يجاور بلاد العرب، وكلاهما كان ينظر للعرب نظرة عنصرية، كما كان لدى الفرس تراث سياسي يقوم على الطاعة المطلقة للحاكم، وظل النظام القبلي هو المهيمن على الجزيرة العربية، ولم يعتد العرب بذل الطاعة لرجل واحد يتخذوه حاكما عليهم.
المحور الثاني: التغيير العميق
لقد أفلح رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام في إنشاء دولة لأول مرة في تاريخ العرب والمسلمين، وقد نقلتهم من محاور الولاء القبلي والعشائري إلى فضاء الأممية والشهود الرسالي والحضاري، فأقام -رسول الله صلى الله عليه وسلم- الدعائم العقدية والثقافية لتلك الدولة على التوحيد وتوسيع مجال الرؤية ليجمع الدنيا والآخرة، الشاهد والغائب، وأقام دعائمها السياسية على دستور مكتوب (صحيفة المدينة) يرسخ سمو القانون، فالجميع سواسية إزاءه (والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) 1، ويعطي للعلاقة بين الحاكم والمحكوم مفهوما جديدا ينبني على التعاقد والتناصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورقابة المجتمع، وبين المسلمين وغير المسلمين على البر والقسط ودعوة الجميع إلى الحفاظ على الوحدة التي لا تنفي التنوع والتعدد، وأكد بسلوكه العملي على قيمة الشورى، ولم يُفهم بتاتا من سلوكه ذاك أنه كان يسعى إلى تأسيس دولة تتناوب على حكمها سلالته أو عائلته أو أهل بيته، وأقام دعائمها الاجتماعية على قيم المؤاخاة والتضامن بين المسلمين، والتعايش مع المخالفين، وعلى العدل في الحكم وتوزيع الثروة.
وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم خلفه في تدبير الشأن العام علماء مجتهدون كبار من الصحابة تصدوا لمهمة الحكم، فأضفت عليهم الأمة صفة الرشد فسمّوا خلفاء راشدين لأنهم أولا لم يصادروا حرية الأمة في اختيار وانتخاب من يسوسها، وثانيا لم يحتوشوا الأموال ولم يراكموا الثروات أو ينفردوا بامتيازات تجارية دون باقي الناس، ولم يكونوا بمنأى عن النصح والانتقاد والتوجيه، بل كانوا هم الساعين إلى ترسيخ تقاليد مشاركة الناس في الشأن العام.
المحور الثالث: الانحراف الخطير
إذا كانت النبوة قد أخرجت الناس من ظلمات الشك والقهر والشرك والخرافة والحيرة والتردد والجهل والعنف والإكراه والعصبيات إلى نور التوحيد والحرية والعلم والإيمان وتحرير الناس من كل أشكال الاستعباد، فإن الخلفاء الراشدين قد عملوا ما وسعهم الجهد على اقتفاء تراث النبوة بفهم بشري وقلب منطو على حب الله وحب الناس وخدمتهم، وماتوا كلهم ولم يستخلف أحد منهم، وما صدر عن بعضهم هو مجرد ترشيح لا يتم إلا “بالبيعة العامة” من الناس. مما شكل معلما من المعالم الواضحة “للخلافة الراشدة” التي أضفت الأمة عليها صفة الرشد لا لبساطة أشكالها من حيث التسيير الإداري، بل لغنى مضامينها المتمثلة:
– أولا: في القيام بحق الله والالتزام بالواجبات الدعوية ووظائف التعليم والتزكية.
– وثانيا: في عدم مصادرة حرية الأمة في اختيار الحاكم، فحُق لأبي الأعلى المودودي أن يسميها لأجل ذلك “خلافة انتخابية”.
– وثالثا: في حماية المال العام ورعاية حرمته.
– ورابعا: في عدم انتهاك حقوق الناس واحترام كرامتهم.
ثم وقع بعد ذلك الانقلاب على الخلافة الراشدة على يد أول ملوك بني أمية، وابتدأ “الملك العاض” الذي اعتبر “أعظم بدعة في التاريخ الإسلامي”. إن الانقلاب الأموي كان “ضربة في الكيان الإسلامي، ترجَّعتْ هزاتها على مدى التاريخ كما تترجع رجات الزلزال. وما الأنقاض والأنكاث التي نراقبها في جسم الأمة من تجزئة في الوطن الإسلامي، وتفرق طائفي مذهبي، وذَرِّيَّةٍ في الفكر، وتشتتٍ في الوِجهة إلا نتيجة بعيدة “أصيلة” لتلك الضربة ورجاتها” 2، ولم تأت “العدل والإحسان” بهذا الرأي بدعا من القول، بل واطأها عليه أفاضل من القدامى كالقاضي أبي بكر الباقلاني الذي قال بعد أن أتى على ذكر شروط “الإمامة”: “وهذه الشرائط كانت موجودة في خلفاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال عليه السلام: “الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يصير ملكا” وكانت أيام الخلفاء الأربعة هذا القدر” 3، وقال ابن حزم – في سياق تعريضه بالقضاة الذين نصبهم الحكام الظلمة: “أولئك القضاة وقد عرفناهم إنما ولاهم الطغاة العتاة من ملوك بني العباس وبني مروان بالعنايات والتزلف إليهم بعد دروس الخير وانتشار البلاء، وعودة الخلافة ملكا عضوضا، وانبراء على أهل الإسلام، وابتزازا للأمة أمرَها بالغلبة والعسف” 4، ووصف الإمام الجويني واقع الحال بعد مضي الخلفاء الأربعة فقال: “أضحى الحق في الإمامة مرفوضا، وصارت الإمامة مُلْكا عضوضا” 5، وتابعه على هذا الرأي العلامة المغربي أبو علي اليوسي فقال: “فلما ذهب الأئمة المقتدى بهم دخل الناس هذا الأمر بالعنف والشهوة، وانقطعت الخلافة، وجاء الملك العضوض، وذهبت السيرة المحمدية إلا قليلا، وجاءت الكسروية والقيصرية، وتصرفوا في هذا المال بالشهوة، وعاملهم الناس بالرغبة والرهبة” 6، وقبله أفتى الإمام مالك بعدم جواز بيعة المكره؛ إذ لما قام محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب على أبي جعفر المنصور، استفتى الناس مالكا في الخروج معه وقالوا: “إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر، فقال مالك: إنما بايعتهم مكرهين، وليس على مكره يمين، فأسرع الناس إلى بيعته” 7 أي إلى بيعة محمد بن عبد الله بن حسن، مما يعني أن الوعي كان قائما وموجودا بالضرر الكبير الذي لحق بالحرية السياسية والعقدية آنذاك.
وارتبط الانقلاب ببدعة التوريث، واحتج الانقلابيون بعهد أبي بكر إلى عمر، وحَسِبوا ذلك العهد “سُنَّة”، وكفى عبد الرحمن بن أبي بكر السابقين واللاحقين مشقة الرد عليهم فقال: “يا معشر بني أمية اختاروا منها بين ثلاث: بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سنة أبي بكر، أو سنة عمر، إن هذا الأمر قد كان، وفي أهل بيت رسول الله من لو ولاه ذلك كان لذلك أهلا، ثم كان أبو بكر، فكان في أهل بيته من لو ولاه ذلك لكان لذلك أهلا، فولاها عمر فكان بعده، وقد كان في أهل بيت عمر من لو ولاه ذلك لكان لذلك أهلا، فجعلها في نفر من المسلمين، ألا وإنما أردتم أن تجعلوها قيصرية، كلما مات قيصر قام قيصر” 8، وهي قيصرية بلغت أوج “تطورها” وأشكالها “الحداثية” في “الجمهوريات الوراثية” لتلحق بما تبقى من “المَلَكيات”، ولقد ترسخ الاستبداد:
– أولا بنظريات التغلب وفقه “الأحكام السلطانية”، فحدث ضمور في الفقه السياسي الأصيل “لأن الحديث عن الحكم وسلطانه ما كان ليُقبَل والسيف مُصلَت، وما كان بالتالي لِيُعقل أو يُنشَر إلا إذا احتمى في جزئيات “الأحكام السلطانية” التي تُقنن للنظام القائم لا تتحدث عنه إلا باحترام تام، أو دخل في جُنَينَات آداب البلاط المزينة بفضائل الأمراء وحِكَمِ الإحسان الأبوي إلى الرعية” 9
– وثانيا بتقليد فتاوى السابقين، كالإمام أحمد الذي قال: “أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والاقتداء به وترك البدع (…) والسمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين والبر والفاجر، ومن ولي الخلافة فاجتمع الناس عليه ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة، وسُمِّي أمير المؤمنين والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة والبر الفاجر لا يُترك” 10، وزاد عليه الباجوري فذكر من طرق تعيين الحاكم: “وثالثها: استيلاء شخص مسلم ذي شوكة متغلب على الإمامة ولو غير أهل لها كصبي وامرأة وفاسق وجاهل، فتنعقد إمامته لينظم شمل المسلمين، وتنفذ أحكامه بالضرورة”. 11
– وثالثا: بالاستغلال السيئ لأحاديث السمع والطاعة ليطلب المستبدون إلى الناس بذل طاعة مطلقة بعد أن اصطنعوا طائفة من “العلماء” لم يُكلِّفوا أنفسهم عناء القيام باستقراء كلي لتلك الأحاديث، فبعضها يَنُصُّ ظاهرها على وجوب بذل طاعة مطلقة للحكام سواء عدلوا أم ظلموا كالحديث المروي عن عبد الله بن مسعود: “إنها ستكون أثرة وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم، وتسلون الذي لكم” 12، وفي الحديث الآخر عن عوف الأشجعي: “ألا ومن له وال فيراه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزع يدا من طاعة” 13، وبعضها الآخر ينص على طاعة مشروطة ومقيدة: فروى ابن حبان عن أبي سعيد الخدري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “من أمركم بمعصية فلا تطيعوه” 14، وفي الحديث الآخر عن علي: “لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف” 15، وفي الحديث الآخر: “ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منكم فلا يكونَنَّ عريفا ولا شُرطيا ولا جابيا ولا خازنا” 16، والثابت في قواعد الأصول أن المطلق يُحمل على المُقيَّد، فلا طاعة مطلقة لحاكِم، ولا أنفع في لجم هوى الحاكم من الفصل بين السلطات وتمتيع القضاء باستقلال حقيقي وتقوية رقابة المجتمع، ولا ريب في أن بعض التنظيمات والأصوات “الحداثية” تمتح من نفس الفقه السياسي الانقلابي بدعوتها إلى تخصيص “المَلِك” بوظيفة “إمارة المؤمنين” وذلك لفرض تأويل وحيد للدين، وتسهيل اتهام المخالِفين لذلك التأويل بالخروج عن الإمارة و”الثوابت”.
[2] عبد السلام ياسين، العدل،الإسلاميون والحكم، (دار لبنان، ط3 ،2018) ص 42.
[3] الباقلاني، الإنصاف فيما يجب الاعتقاد به، ص: 60، مصر، مكتب نشر الثقافة الإسلامية، 1950 م.
[4] ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، 1/ 624- 625.
[5] الإمام الجويني، غياث الأمم، ص: 124.
[6] فاطمة خليل، رسائل أبي علي اليوسي (الرسالة الثالثة) 1/ 249.
[7] ابن الأثير، الكامل، 4/ 156- 157.
[8] أمالي القالي 2/175
[9] عبد السلام ياسين، نظرات في الفقه والتاريخ، (بيروت: دار لبنان،2018) ص 11-12.
[10] أبو القاسم الطبري، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، 1/ 160.
[11] إبراهيم بن محمد الباجوري، حاشية الباجوري على شرح ابن قاسم الغزي، (بيروت:دار المنهاج،ط1 ،2016) 169-170
[12] ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، 2/113.
[13] المرجع السابق.
[14] علاء الدين الفارسي، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، باب طاعة الأئمة، 7/44
[15] المرجع السابق.
[16] المرجع السابق.