الحرية السياسية والعقدية في منهاج “العدل والإحسان” (3/3)

Cover Image for الحرية السياسية والعقدية في منهاج “العدل والإحسان” (3/3)
نشر بتاريخ

المحور السادس: لا حرية بدون التحرر من الاستبداد:

نحن تحت حكم “هو تعريفا حجب للحرية” 1، وكنا قد ذكرنا سوابق حكم القهر والغلبة في تاريخنا، بعد تحول الخلافة على ملك عضوض، إلا أن إحجام أحزاب وجماعات عن التوجه بالنقد للحكم العاض والجبري الماضي، فيه تزكية للاستبداد الحاضر، إن من الصور التاريخية للقسر والإكراه اللذين ارتبطا بالاستبداد ومصادرة الحرية السياسية، العهدَ بالحكم إلى الأبناء وقرابة الحاكم، والمعروف فقها وقضاء أن الحكم ليس مما يورث، وإنما النظر فيه موكول إلى عامة الناس ليختاروا الأصلح والأتقى، ولم يقتصر التوريث على الجانب السياسي من خلال مصادرة حق الأمة في اختيار حاكمها إما باسم السلطنة السنية وإما باسم الإمامة الشيعية المعصومة، بل تعداه إلى مدارس التصوف من خلال توارث المشيخة وشيوع التصوف التبركي الانعزالي.

لقد غرست الفردية السياسية الخوف في النفوس من الحاكم، والتوجس من السياسة، فاستتبع غياب العدل غياب “الإحسان“، وهكذا فالحكم الفاسد – يقول الأستاذ المرشد رحمه الله – “لم يُسقط من أيدينا الشورى والعدل فقط، بل أذهب من قلوبنا معنى الإحسان الذي به يعبد المحسن ربه كأنه يراه. احتل الخوف من الناس، وهو جبن سافل، مكان المزية العظيمة: مزية الخوف من الله العلي العظيم”، وعندما تخلخلت العقيدة، أصبح المجال العام لا مكان فيه للحرية السياسية.

ويبرز الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله الفرق بين “الملك العاض” و”الملك الجبري”؛ فالملك العاض هو “الذي يعض على الأمة بالوراثة وبيعة الإكراه”، والملك الجبري هو “القهر الجبري أي الدكتاتوري بلسان العصر”، ويعتبره أفظع من العاض “لأن الجبر إن كان يلوح بشعارات الدين كما كان يفعل الملك العاض فقد أفرغ أجهزة الحكم والإعلام والتعليم وأفرغ قوانين الحكم من كل معاني الإسلام” 2.

غالبا ما كان واجب طاعة السلطة يتخذ ذريعة للإكراه والقهر، وإذا كان الرضا يعني “القبول بوضع يستلزم قدرا من التنازل يتبدى في واجب الطاعة” 3، فإن السلطة عندما تستخدم القوة لفرض الطاعة تكون قد فشلت وأخفقت 4، والتحرر من الاستبداد يقتضي شروطا لا يكتمل إلا بها، فالإنسان يولد وهو متمتع بالحرية، ويزداد منسوبها كلما تقدم في العمر، وكلما اكتسب الخبرة المتأتية من تجارب الحياة، إلا أن تلك الحرية قد لا تبقى مصاحبة له دائما، قد يحرم نفسه منها طواعية جزاء اقترافه لجرائم في حق المجتمع، أو تحرمه منها ظروف قاهرة خارجة عن إرادته بحيث يصير همه متجها إلى التخلص منها كالفقر والخصاصة، والقهر والاستبداد، مما يستدعي إزالة كل الحواجز التي تحول دون تمتع الإنسان بالحرية، لذلك سبَّق الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله الحديث عن الشروط الإنسانية والمادية، الاجتماعية والاقتصادية، السياسية والتكنولوجية، “التي تمكن من التحرر، تمكننا من اكتساب حرية تتناسب مع النداء والاستجابة الإيمانية، تحقق أهداف الشرع في الدنيا عزةً للأمة كما تحقق غاية المؤمن في الآخرة: السعادة الأبدية عند الله عز وجل” 5، ويقتبس من القرآن الكريم اصطلاح “اقتحام العقبة” الوارد في سورة البلد، لنكتشف معه مجال الحرية وعوائقها، فَلَا ٱقۡتَحَمَ ٱلۡعَقَبَةَ (11) وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوۡ إِطۡعَٰمٞ فِي يَوۡمٖ ذِي مَسۡغَبَةٖ (14) يَتِيمٗا ذَا مَقۡرَبَةٍ (15) أَوۡ مِسۡكِينٗا ذَا مَتۡرَبَةٖ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡمَرۡحَمَةِ (17).

–       فالاقتحام أولا “دخول شجاع في شدائد، على أنه منابذة للخوف، بل هجوم على ما يخيف الجبناء” 6.

–       أمام العقبة “الإنسان مخير ذو إرادة. حر في أن يسارع لرضى ربه ويتجشم في سبيله المشاق أو يختار النجد الآخر” 7.

–       العقبة هي ثلاث عقبات تعوق التحرر:

1- الرق الذي يستعبد الإنسان فإذا هو رهين بإرادة غير إرادته.

2- العوز الذي يقعد بالمسكين واليتيم، تمنعهم المسغبة والاهتمام بالقوت عن كل خير.

3- الانفراد عن جماعة المؤمنين الذين يتأتى السفر والاقتحام في كنفهم.

ولكيلا ينحصر توجيه هذه العقبات أو اختزالها في الأحكام الفقهية، دعا إلى فهم أشمل وأكمل، وبهذا المعنى يكون فك الرقاب يعني “تحرير الإنسان من العبودية لغير الله عز وجل” 8، وإطعام اليتيم والمسكين يعني “تحرير لطاقاته لينتج ما به يستطيع أن يطعم المعوزين ابتداء من إطعام نفسه” 9، والكينونة مع الذين آمنوا تعني “تحرير للإنسان المؤمن الفرد من العزلة والخمول والانفراد، وإدماج له في الجماعة” 10.

إن هذه المعاني الثلاث تمثل بمجموعها مجالات ثلاث: المجال النفسي، والمجال الاقتصادي، والمجال السياسي، ومن المثالية الحالمة أن يضرب المرء صفحا عن هذه المجالات، فيطلب بعض رموز الخطاب الديني من الناس نقاء وصفاء مجردين من الشروط المادية والسياسية، فلا عجب أن لا يلقي لهم أحد بالا، وغياب تلك الشروط ينقص من حرياتهم، ويعرضهم لضغوط اجتماعية واقتصادية وهو ما نبه عليه الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله فقال: “في أذن الجائع لا يسلك إلا صوت يبشر بالخبز، في وعي المقهور المحقور لا يتضح إلا برهان الحرية، في الأثر: «كاد الفقر أن يكون كفرا». فمن كان شغل يومه ونهاره هم القوت، والمأوى، والكسب والشغل، والدَّيْن، ومرض الأطفال، ومصير الأسرة، لن يستمع لعرض المبادئ العليا ولو كانت دينا يؤمن به، لا وقت له، لا استعداد، لا مناسبة” 11.

المحور السابع: الحريات الفردية

تدخل ضمن الحريات الفردية حرية الرأي والتعبير، والحرية السياسية، والحرية العقدية وغير ذلك، ولكن كثيرا ما يتم اختزال تلك الحريات في ما له علاقة بالممنوعات الشرعية، وبالأعراف الاجتماعية، والحقيقة أن الهدف من الدعوة إلى اقتراف تلك المحرمات ليس الحريات الفردية وإنما المجاهرة، ينطبق هذا على الداعين إلى المجاهرة بالإفطار، والمجاهرة بـ”الزنا” الذي أطلقوا عليه اسما مخادعا هو “العلاقات الرضائية”، فالمجتمع الإسلامي لم يخل مذ أسس من أناس ضَعُفوا أمام شهواتهم ونزواتهم فطلبوا المتعة الحرام والمال الحرام، لكنهم كانوا يحرصون على التخفي والستر، ودعي المسلم على الستر على الناس وعدم فضحهم، قبل أن يحالوا على المحاكم، ويمكن القول إن الشريعة بهذا المعنى تحمي الحريات الفردية، فمن أغلق عليه باب بيته، وانتهك حرمة شهر الصيام فتعمد الإفطار، أو خلا بامرأة وارتكب جريمة الزنا، فلا حق لأي أحد أن يتجسس عليه، وإن فعل يكون هو الآثم، ويظهر هذا الأمر أكثر في أن العقوبة في الشريعة كثيرا ما تتجه إلى ملاحظة توفر أو عدم توفر عنصر المجاهرة، فشرط إقامة الحد على الزاني توفر أربعة شهود عاينوا الواقعة وهو شرط صعب التحقق إلا إذا كانت الجريمة قد تمت على قارعة الطريق، والشرط الآخر هو التحقق من وقوع الإيلاج كما يقول الفقهاء “كالمرود في المكحلة” وليس مجرد رؤية الرجل والمرأة عاريين.

المحور الثامن: حرية العقيدة

إن مكنونات القلوب والضمائر لا سلطان لأحد عليها، ولا يصلح تلك القلوب والضمائر الإكراه ولا الزواجر، ولذلك ينصب اهتمام العقيدة عليهما، تربية وتعليما، ونصحا وتوجيها، من طرف أفراد ومؤسسات، وعلى قدر نقاء العقيدة وصفائها يكون السلوك قويما رشيدا، ولا مدخل للحرية العقدية إلا بفقه هذه الحقائق وجماعُها أمور منها:

–      الإكراه يكثر سواد المنافقين، ويعزل المؤمنين، والأسبقية لتحصيل المناعة قبل المنع.

–     ومبنى العقائد على الإقتناع العقلي والاطمئنان القلبي، وفي هذا المضمار كثيرا ما يقتصر في الحديث عن الحرية العقدية على عقوبة المرتد في الفقه الإسلامي، وتثار مسألة العلاقة مع أهل الديانات الأخرى كاليهود والمسيحيين، ولئن كان القرآن الكريم واضحا في الدعوة إلى معاملتهم بالحسنى، فإن حكم المسلم الذي ارتد عن الإسلام هو الذي كان مثار جدال وخلاف شديدين.

–     سبق للأستاذ عبد السلام ياسين رحمه أن دعا إلى اعتبار مقاصد الشريعة وخصوصيات الواقع قبل تقرير أي حكم، فالذين يحسمون أمرهم بالدعوة إلى قتل المرتد بلا نقاش صنفهم مع “من يحمل إلى الناس وعيدَ الإسلام للمرتدِّين والخارجين عن حدود الإسلام، ويظن أنه إن قطع الأيدي وقتل من يستحق القتل وأقام الحدود، فذاك هو المطلوب وقد قام الدين” 12. والصحيح في رأيه هو “أن ننظر إلى أنفسنا ونحن في غمار الفتنة، وأن ننظر إلى ماضينا لنعرف كيف كانت الجاهلية، وكيف جاء الإسلام، وكيف انتقضت عُرى الدين. ما الوصف المناسب لحالنا؟ هل نحن جاهليون؟ هل نحن في مجتمع جاهلي، أم في مجتمع فتنوي؟ لا بد لنا من تدقيق هذه المفاهيم، ولا بد لنا أن ننظر إلى الردة بغير نظرة الفقيه الذي يطبق الأحكام وكأن الدين قائم، لا بد أن ننظر إلى كتاب الله عز وجل لنعرف، وليعرف رجل الدعوة من أين تأتي الردة، وكيف يرتدّ الناس، وما هي العوامل التي تشجعهم وتحرِّضهم على الردة، لكي يعالج المرض. ثم بعد ذلك ننظر إلى دولة الإسلام في مستقبل الخلافة الثانية على منهاج النبوة بحول الله، كيف تتعامل الدولة بعد قيامها وبعد بناء المجتمع الإسلامي وإعادة تأسيسه. كيف وأين يكون السلطان مؤيِّدا وناصرا ووازعاً مع القرآن” 13، ومحصل هذا الدعوة إلى تجديد النظر في قضية عقوبة المرتد وسلوك سبيل مباين لسبل الإفراط والتفريط.

خاتمة

لقد تمهد بما ذكر في هذه المحاور جملة نتائج هي:

§      تقييم نظرة “العدل والإحسان” لمسالة الحرية السياسية والعقدية يجب أن يتم بالنظر إلى مرجعيتها الإسلامية، وإلى الواقع التاريخي الذي حكم البيئة السياسية قبيل الإسلام وبعده.

§    كان المزاج الدولي الإمبراطوري الذي واجهته الدولة الإسلامية الوليدة مزاجا يحكمه القهر والعنصرية والاستبداد والتوريث والجاهلية بما هي جهل وبما هي عنف على الإنسان.

§   اصطنعت الإمبراطوريات لها أتباعا في الجزيرة العربية، يدخلون في الحروب بالوكالة لترسيخ التبعية السياسية والاقتصادية.

§       نقل الإسلام بعد تمكنه العرب من محاور الولاء القبلي والعشائري على مفهوم الدولة والنظام والجماعة.

§       حافظت الخلافة الراشدة على الإرث النبوي في التعامل مع الحاكم وتدبير الثروة ونشر التدين والتخلق.

§      بعد الانقلاب على الخلافة الراشدة حدثث أعظم بدعة في التاريخ الإسلامي وهي توريث الحكم ومصادرة حق الناس في اختيار الحاكم.

§      لتسويغ الاستبداد التمست له مبررات عقدية كالقول بأن العمل ليس من أركان الإيمان، والقول بأن الإنسان مجبور على أفعاله.

§     لا حرية من دون التحرر من الفقر.

§     لا حرية من دون التحرر من الاستبداد.

§   المجال النفسي والمجال الاقتصادي، والمجال السياسي هي مجلات الحرية التي تقتحم بها عقبات الاستعباد والاسترقاق، والعوز والحرمان، والاعزال والاستبعاد الاجتماعي التي تمثل العوامل الخصبة لنشوء الاستبداد.

§    الحرية الفردية كما ينادى بها اليوم القصد من كثير من دعواتها خلخلة القيم بالمجاهرة التي تؤدي إلى العدوى.

§   حرية العقيدة تناقض الإكراه بكل أشكاله، ولا يمكن اختزالها في حكم المرتد، وهي المسألة التي تحتاج إلى تقليب النظر لتجاوز خطابات التقليد وخطابات التبعية للخارج.


[1] عبد السلام ياسين، الشورى والديموقراطية، ص 42.
[2] عبد السلام ياسين،نظرات في الفقة والتاريخ، ص 13
[3] جان مارك كواكو، الشرعية والسياسة، ترجمة:خليل الطيار، (الأردن، المركز العلمي للدراسات السياسية، 2001) ص 31.
[4] حنا ارندت، بين الماضي والحاضر، ( نيويورك، 1983) 92-93.
[5] عبد السلام ياسين، مقدمات في المنهاج، ص 43.
[6] المرجع السابق، ص 38
[7] المرجع السابق، 39
[8] المرجع السابق، ص 40
[9] المرجع السابق
[10] المرجع السابق
[11] عبد السلام ياسين، الإسلام وتحدي الماركسية اللينينية، ص 12.
[12] عبد السلام ياسين، أحاديث في العدل والإحسان، شريط مرئي، المجلس السادس،ليلة الخميس 7 من جمادى الأولى سنة 1410 الموافق لـ 7 دجنبر 1989.
[13] المرجع السابق.