“أين مدادي من دمـك”
أمران اثنان تُفضِي معرفتهما لإدراك شناعة جريمة قتل الحسين – رضوان الله عليه – : الأول: قدْر الحسين وفضله، والثاني: مقصده الشريف من “الخروج” على يزيد، ويكفي إيراد جملة من الأحاديث المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيان الأمر الأول، وإيراد جملة من تفاصيل مواجهة الحسين لـ”الردة السياسية” التي تجلت في الانقلاب على “الخلافة الراشدة” لبيان الأمر الثاني.
قَدْر الحسين
ثمة ملحظ مهم يجدر ذكره عند الحديث عن استشهاد الحسين وهو أنه قد وقع التركيز-لاسيما من الشيعة- على الأيام الأخيرة قبل استشهاده رضوان الله عليه ، وتم إغفال الحديث عن تفاصيل حياته قبل ذلك، فعرفنا كثيرا كيف مات الحسين في سبيل الله، وعرفنا قليلا كيف عاش في سبيل الله، ومحل إقامة التوازن بين المرحلتين كتاب لا مقال منتهاه التنبيه على “لقطات” من حياة الحسين قبل الاستشهاد:
الولادة المباركة
عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه رضي الله عنه قال: “رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسين حين ولدته فاطمة رضي الله عنها” 1 .
الإحسان في التسمية
عن وكيع عن الأعمش عن سالم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إني سميت ابني هذين(أي الحسن والحسين) باسم ابني هارون شبر وشبير” 2 .
أحسن الله خَلقه
عَن عَلِي رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: مَنْ سَرهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى أَشْبَهِ النَّاسِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَيْنَ عُنُقِهِ إِلَى وَجْهِهِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى الْحَسَنِ بن عَلِيٍّ، وَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى أَشْبَهِ النَّاسِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَيْنَ عُنُقِهِ إِلَى كَعْبِهِ خَلْقًا ولَوْنًا فَلْيَنْظُرْ إِلَى الْحُسَيْنِ بن عَلِيٍّ.) 3
المحبة النبوية الكاملة
أتى حسين يشتد حتى وقع في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أدخل يده في لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح فم الحسين فيدخل فاه في فيه ويقول: “اللهم إني أحبه فأحبه” 4 ، وعن عَبْد اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ قَال سَمِعْتُ أَبِي بُرَيْدَةَ يَقُولُ: “”“كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُنَا إِذْ جَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمِنْبَرِ فَحَمَلَهُمَا وَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ صَدَقَ اللَّهُ {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} فَنَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي.” 5
الرعاية والتعهد بالتربية
عن يحيى بن أبي كثير أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع بكاء الحسن [أو] الحسين فقام فزعا فقال: “إن الولد لفتنة، لقد قمت إليه وما أعقل” 6 . وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَامِلَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَى عَاتِقِهِ فَقَالَ رَجُلٌ نِعْمَ الْمَرْكَبُ رَكِبْتَ يَا غُلَامُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنِعْمَ الرَّاكِبُ هُو.” 7
حمل هموم الناس
كان الحسين يكرم الضيف، ويغني ذا الحاجة، ويصل الرحم، ويسعف السائل، ويكسوا العاري، ويشبع الجائع، ويعطي الغارم، ويأخذ الحق للضعيف، ويشفق على اليتيم، ويمنح الطالب، وعاد أسامة بن زيد في مرضه الذي توفي فيه، فشكى له أسامة ديونا عليه فالتزم الحسين بقضائها كلها عنه.
مكارم الأخلاق
فيروى أنه مر على مساكين يأكلون في (الصفة)، فدعوه إلى الغداء فنزل عن راحلته، وتغذى معهم، ثم قال لهم: (قَد أجبتُكُم فَأَجِيبُونِي). فقبلوا كلامه وأتوا منزله، فقال لزوجه الرباب: أَخرِجي ما كُنتِ تَدَّخِّرين، وجرَت مشادة بين الحسين (عليه رضوان الله) وأخيه محمد بن الحنفية، فانصرف محمد إلى داره وكتب إليه رسالة جاء فيها:أما بعد: فإن لك شرفاً لا أبلغُه، وفضلاً لا أُدركُه، أبونا عَلي لا أفَضّلك فيه ولا تُفضّلني، وأمي امرأة من بني حنيفة، وأمك فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله، ولو كان مِلءُ الأرض مثل أمِّي مَا وَفيْنَ بِأمِّك، فإذا قرأت رُقعتي هذه فالبَس رِدَاءك ونَعلَيك وَسِرْ إِليَّ، وتُرضِينِي، وَإيَّاك أن أكونَ سابقُكَ إلى الفضلِ الذي أنت أولَى بِه مِنِّي)، وروى أنس قال: كنت عند الحسين فدخلت عليه جارية بيدها طاقة رَيحانة فَحَيَّتهُ بها، فقال لها: (أنتِ حُرَّة لِوجه الله تعالى). فتعجب أنس وانصرف وهو يقول: جَاريةٌ تجيئُكَ بِطَاقَة رَيحانٍ فَتَعتِقها؟!! فأجابه الحسين: (كَذا أدَّبَنا اللهُ، قال تبارك وتعالى: (وَإِذَا حُيِّيْتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) وكان أحسَنَ منها عِتقُهَا).)
قلب مع الله
عن سلمة بن يحيى بن طلحة عن عمته أم إسحاق بنت طلحة قالت كان الحسن بن علي يأخذ نصيبه من قيام الليل من أول الليل وكان الحسين يأخذ نصيبه من آخر الليل 8 . واشتهر عنه أنه كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، حتى تعجب ابنه علي بن الحسين زين العابدين كيف ولد لأبيه الذي لم يكن يجد وقتا لأمرأته، وقال عبد الله بن الزبير بعد استشهاد الحسين:” أمَا والله لقد قتلوه طويلاً بالليل قيامُه، كثيراً في النهار صومُه”.
ومن السنن التي رسختها”الخلافة الراشدة” وانقلب عليها “الملك العضوض” بقيادة طلقاء بني أمية: إكرام أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فروى ابن أبي الحديد عن يحيى بن سعيد أنه قال: أمر عمر الحسين بن علي أن يأتيه في بعض الحاجة، فلقي الحسين عليه السلام عبد الله بن عمر فسأله من أين جاء؟ قال: استأذنت على أبي فلم يأذن لي فرجع الحسين ولقيه عمر من الغد، فقال: ما منعك أن تأتيني؟ قال: قد أتيتك، ولكن أخبرني ابنك عبد الله أنه لم يؤذن له عليك فرجعت، فقال عمر: وأنت عندي مثله؟ وهل أنبت الشعر على الرأس غيركم” 9 ، وهذا القول العُمَري ليس كلاما في الفراغ وعاريا عن العمل، ففي العطاء كان يعطي أهل البيت أكثر من غيرهم، ويثبت أسماء المنتسبين إليهم في مقدمة”الديوان”، وجعله الله سببا في اقتران الحسين بابنة كسرى لما سبيت في فتح المسلمين لبلاد فارس، فآثر الحسين بها على ابنه عبد الله بن عمر، فولدت له الدرة الباقية: علي بن الحسين زين العابدين الذي نجا بكرامة إلهية من مجزرة كربلاء.
ذاك هو الحسين الرسالي، سليل بيت النبوة، وابن سيدة نساء العالمين، ومحبوب المؤمنين الصادقين، صُنِع على عين الله فنال درجة الكمال البشري، ، فلم يكن موجودا غير بشري، كان ذا قلب مع الله، ويد تعمل في البيئة الملوثة تصلحها، تلوثت بانقلاب فاضح على الخلافة الراشدة، وتوريث الحكم، ومصادرة حق الأمة في من يحكمها، وتسليط الطغاة الجبابرة على رقاب الناس، إنها”ردة سياسية” نهض الحسين لمواجهتها بدون تردد، ولم يقبل نصح الناصحين، كما نهض أبو بكر- رضي الله عنه- لمواجهة “الردة العقدية” بدون تردد للدفاع عن حق الفقراء، ولم يقبل أيضا نصح الناصحين.
الحسين في مواجهة “الردة السياسية”
إن الكثير من أحاديث الفتن كانت تحذر من كوارث ستقع في مستقبل المسلمين ولم تكن تشرع لها أو تمدحها، منها الأحاديث المنبئة بحدوث الانقلاب على “الخلافة الراشدة”، كالحديث الذي رواه حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة” 10 ، وروى الإمام البخاري عن موسى بن إسماعيل قال: حدثنا عمرو بن يحيى بن عمرو بن سعيد قال: أخبرني جدي قال: كنت جالسا مع أبي هريرة في مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم – بالمدينة ومعنا مروان، قال أبو هريرة: سمعت الصادق المصدوق يقول: هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش فقال: مروان: لعنة الله عليهم غلمة، فقال أبو هريرة: لو شئت أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلت، فكنت أخرج مع جدي إلى بني مروان حين ملكوا الشام، فإذا رآهم غلمانا أحداثا قال: عسى أن يكونوا منهم، قلنا: أنت أعلم” 11 ، وورِد الحديث عند البخاري أيضا بصيغة أخرى جاء فيها: “هلاك أمتي على يدي أغيلمة سفهاء” 12 ، وروى الإمام أحمد عن الصحابي سفينة – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم مُلكا بعد ذلك” 13 ، قال سفينة: أمسك: خلافة أبي بكر وخلافة عمر وعثمان، وامسك خلافة علي – رضي الله عنهم- قال: فوجدناها ثلاثين سنة” 14 .
لقد أرادها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون شورى إلى يوم القيامة، وعمل الخلفاء الراشدون ما وسعهم الجهد على تحقيق هذه الرغبة، بوسائل تبدو بسيطة بمقاييس عصرنا، لكنها كانت مجللة بالأرواح الزاهدة في المال والسلطة، والمدركة بأن مهمتها في الحكم لا تعدو مهمة من وكلته الأمة، ليس له أن يخرج عن اشتراطات المُوكِّل، ويرجع الأمر حتما إلى يد الأمة إن بدا من الحاكم ظلم وتعدي أو طغيان واستبداد، ولم تمهل المؤامرات التي كانت تمتح من الموروث القبلي الجاهلي “الراشدين” كي يرسخوا آليات الحكم الشوري ويطوروه و”يمأسسوه”، فبعد استشهاد عثمان- رضي الله عنه- بويع علي – كرم الله وجهه- بيعة عامة من المسلمين، ووصف بيعته فقال محتجا على من تذرعوا”بقميص عثمان” للوقوف في وجه الخليفة الشرعي:”إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماما كان ذلك لله رضا” 15 ، وقبل ذلك لما أراد المهاجرون والأنصار مبايعته قال: “لا أفعل إلا عن ملإ وشورى” 16 ، واستشهد علي وورث الحسن بعد مبايعته جميع الخلافات مع جيش الشام بقيادة معاوية، وبعد تخاذل أنصاره، وحرصا منه على حقن الدماء تنازل الحسن عن الحكم لمعاوية بموجب اتفاقية صلح كان أهم بنودها إرجاع الأمر شورى بعد مضي معاوية، وساير الحسين على مضض أخاه فلم يخرج على معاوية الذي انتصب للحكم كأول “ملك” في التاريخ الإسلامي، ولقد كان الصحابي سعد بن مالك- رضي الله عنه- مدركا لهذه الحقيقة عندما دخل على معاوية بن أبي سفيان فحياه قائلا: “السلام عليك أيها الملك، فغضِب معاوية فقال: ألا قلت السلام عليك يا أمير المؤمنين؟ قال سعد: ذاك إن كنا أمَّرناك، إنما أنت مُنتَز” 17 .
ولقد أسديت نصائح وجرت محاولات عدة من أهل البيت وكبار الصحابة لثني أول مَلِك عن الاستمرار في تكريس “الانقلاب” بعزمه العهدَ بالحكم ليزيد، فقال عبد الرحمان بن أبي بكر لمعاوية:”إنك والله لوددت أنا وكلناك في أمر ابنك إلى الله، وإنا والله لا نفعل، والله لتردن هذا الأمر شورى بين المسلمين أو لنعيدنها عليك جدعة ثم خرج” 18 ، ولم يكتف بالتهديد بل عرض الخيارات أيضا فقال: “يا معشر بني أمية اختاروا منها بين ثلاث:بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سنة أبي بكر، أو سنة عمر، إن هذا الأمر قد كان، وفي أهل بيت رسول الله من لو ولاه ذلك كان لذلك أهلا، ثم كان أبو بكر، فكان في أهل بيته من لو ولاه ذلك لكان لذلك أهلا، فولاها عمر فكان بعده، وقد كان في أهل بيت عمر من لو ولاه ذلك لكان لذلك أهلا، فجعلها في نفر من المسلمين، ألا وإنما أردتم أن تجعلوها قيصرية، كلما مات قيصر قام قيصر” 19 ، وبنفس المنطق خاطب عبد الله بن عمر معاوية فقال: “إنه قد كان قبلك خلفاء لهم أبناء، ليس ابنك بخير من أبنائهم، فلم يروا في أبنائهم ما رأيت أنت في ابنك، ولكنهم اختاروا للمسلمين حيث علموا الخيار” 20 ، كيف لا يقول ابن عمر هذا وهو الذي علم من سيرة أبيه أنه سأل أهل العراق عن الأمير إذا جار عليهم، فقالوا: نصبر على جوره، فقال لهم: لا والله لا تكونوا شهود الله في أرضه حتى تأخذوهم كما يأخدونكم، وتضربونهم كما يضربونكم” 21 ولم يقل لهم: أطع الأمير ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك، ولذلك كان عبد الملك بن مروان ينهى عن ذكر سيرة عمر في الحكم فيقول: “إِيهاً عن ذكر عمر فإنه إزراء على الولاة، مفسدة للرعية” 22 .
ولما لم تنفع النصائح والمحاولات احتاج الأمر لحركة أكبر، وسعي أخطر، لا تنبع خطورته من كثرة الجيوش والأنصار، بل من أهمية القضية في حاضر المسلمين- آنذاك- ومستقبلهم، قضية حق الأمة في اختيار من يحكمها ويسير أمورها، لأن الأمر أمرهم (وأمرهم شورى بينهم)، ولن يفي بواجب النهوض لتلك الحركة وذلك السعي إلا “قوة رمزية كبيرة” تحرج الانقلابيين، وتلون فصول المواجهة لهم بلون الدم، وتقول لهم بلسان الحال: في بيتنا كان مهبط الوحي والرسالة، وفي بيتنا تربينا على الشورى الخاصة، ولن تتمكنوا من إماتة الشورى العامة إلا على جثتنا، تلك القوة الرمزية تجلت في أبهى صورها في سيد الشهداء الحسين بن علي رضوان الله عليه.
أخذ معاوية في حياته البيعة ليزيد وامتنع عبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن عباس، و عبد الله بن عمر، والحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، ولما مات معاوية أراد يزيد فرض بيعته بالقوة، فكتب إلى عامله على المدينة الوليد بن عتبة: “أما بعد فخذ حسينا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا والسلام” 23 بعد ذلك خص كل واحد بكتاب، فكتب الوليد إلى عبد الله بن عمر فقال: بايع ليزيد، فقال: إذا بايع الناس بايعت، فقال رجل: إنما تريد أن يختلف الناس ويقتتلون حتى يتفانوا، فإذا لم يبق غيرك بايعوك؟فقال ابن عمر: لا أحب شيئا مما قلت، ولكن إذا بايع الناس فلم يبق غيري بايعت” 24 ، فكان عبد الله بن عمر عند شرطه إذ “لما جاءت البيعة من الأمصار بايع مع الناس” 25 ، وأرسل الوليد في طلب ابن الزبير فظل يماطله حتى لحق بمكة، ودعا الحسين إلى البيعة فقال له: “إن مثلي لا يبايع سرا، وما أراك تجتزي مني بهذا، ولكن إذا اجتمع الناس دعوتنا معهم فكان أمرا واحدا” 26 ، فقال مروان بن الحكم للوليد: “والله لئن فارقك ولم يبايع الساعة ليكثرن القتل بينكم وبينه، فاحبسه ولا تخرجه حتى يبايع وإلا ضربت عنقه” 27 .
في خضم الأخذ والرد بين الحسين والانقلابيين كانت الرسائل تتوارد عليه من أهل الكوفة تدعوه للقدوم عليهم ليبايعوه، فبعث ابن عمه مسلم بن عقيل يتحرى حقيقة الأمر، وأعلمه مسلم برغبة الناس فعلا في قدومه، وغاب عنه ما كان معسكر الانقلابيين يدبره من ترهيب للناس، ومصادرة أرزاقهم، وشراء ولاء الكثير منهم بالرشاوى والأعطيات، وهو ما أكده مجمع بن عبد الله العائذي للحسين لما سأله عن خبر الناس فقال مجمع: “أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم، وملئت غرائرهم، يستمال ودهم، ويستخلص به نصيحتهم، فهم ألبٌ واحدٌ عليك، وأما سائر الناس بعد، فإن أفئدتهم تهوي إليك، وسيوفهم غداً مشهورةٌ عليك” 28 ، ووصل الأمر إلى حد اختراق الجواسيس لأنصار المعارضة الحسينية، فقد دس ابن زياد مولى وسطهم يستدل على الدار التي يأخد بها مسلم بن عقيل البيعة للحسين فدخلها، وأصبح من المقربين إليه(مسلم) في المجلس، وكسب ثقة الجميع بما كان يقدمه من مال مدفوع من ابن زياد، فكان الجاسوس ينقل الأخبار إليه أولا بأول، إلى أن قبض على مسلم بن عقيل فقال ابن زياد: إيه يا بن عقيل، أتيت الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة لتشتتهم وتفرق كلمتهم وتحمل بعضهم على قتل بعض ؟ قال: كلا لست لذلك أتيت، ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب” 29 مرة أخرى يتبدى لنا نفس المنطق الذي رفض به عبد الرحمن بن أبي بكر بيعة يزيد: لا للقيصرية والكسروية.
لما استشهد مسلم بن عقيل كان الحسين قد خرج قاصدا الكوفة ولم يفلح كبار الصحابة ولا رجال من أهل البيت في إقناعه بالتراجع منهم أبو سعيد الخدري وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر، ومحمد بن الحنفية، ولما بلغ يزيد سير الحسين إلى الكوفة كتب إلى ابن زياد فقال: “إن حسينا قد سار إلى الكوفة، وقد ابتلي به زمانك من بين الأزمان، وبلدك من بين البلدان، وابتليت أنت به من بين العمال، وعندها تعتق أو تعود عبدا كما ترق العبيد وتعبد” 30 ، أفيجوز بعد هذا التخيير لابن زياد بين الحرية والعبودية أن تلتمس الأعذار ليزيد بأنه لم يكن يريد قتل الحسين.
وأمام الدعاية الشرسة للانقلابيين أراد الحسين أن يزيل كل لبس حو ل أسباب “قيامه”، فقال مرة يخاطب أصحابه وأتباع الانقلابيين: “أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله”. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله، وأنا أحق من غير” 31 ، فنبه رضوان الله عليه على مصاديق الانقلاب من تعد واستبداد وطغيان وانتزاء على الحكم من غير شورى، وكلها موجبة “لقيام”الحسين مهما كلفه الأمر، لذلك قال: “إني لا أرى الموت إلا شهادة، ولا الحياة مع الظالمين إلا برما” 32 .
وطيلة مسير الحسين ظل الانقلابيون يكررون على مسامعه مطلبا واحدا وهو: البيعة ليزيد وأن يضع يده في يده، ففي المكان المسمى”عذيب الهجانات” لقيه الحر بن يزيد في ألف فارس، فقال له: “قد أمرنا إذا نحن لقيناك ألا نفارقك حتى نقدمك على عبيد الله بن زياد” 33 ورد عليه الحسين: “الموت أدنى إليك من ذلك” 34 ، وفي”نينوى” القريبة من كربلاء ورد على الحر كتاب من عبيد الله بن زياد جاء فيه: ” أما بعد، فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي، ويقدم عليك رسولي، فلا تنزله إلا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري؛ والسلام” 35 ، لقد كان الحر في كل مرة يتنحى عن الحسين ويحرص على عدم إيذائه بقبيح الكلام، ولما حضرت الصلاة صلى هو وجيشه بصلاة الحسين، وظن أن منتهى جهده هو حمل الحسين على الرجوع من حيث أتى أو تقديم البيعة ليزيد، لكن تبين له من الرسائل والجيوش الواردة عليه أن ثمة نية وعزما على إذلال الحسين واستئصال من خرج معه من أهل البيت، لذلك عاش صراعا نفسيا في داخله، وظل يتحين الفرص إلى أن التحق بعدُ بصف الحسين، وأمر عبيد الله بن زياد عمر بن سعد بأن يلحق بالحر على رأس أربعة آلاف فارس، وكان فيهم الكثير ممن كاتب الحسين وطلب منه القدوم إلى الكوفة فكانوا يستحيون من مواجهته، وكان ابن سعد ينقل تفاصيل المفاوضات بينه وبين الحسين لابن زياد عامل يزيد، وتأكد له أيضا ما تأكد للحر من أن يزيد وابن زياد لا يريدان العافية، فقد جاء في كتاب لعمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد: ” أما بعد، فإني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي، فسألته عما أقدمه، وماذا يطلب ويسأل، فقال: كتب إلي أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم، فسألوني القدوم ففعلت؛ فأما إذ كرهوني فبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم فأنا منصرفٌ عنهم، فلما قرىء الكتاب على ابن زياد قال: 36 الآن إذ علقت مخالبنا به
يرجو النجاة ولات حين مناص!ورد ابن زياد على ابن سعد بكتاب جاء فيه: “أما بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية هو وجميع أصحابه” 37 ، إلا أن ابن سعد لم يكن مثل الحر، فأخلد إلى الأرض واتبع هواه وعزم على حرب الحسين حتى لا يترك أية فرصة لشمر بن ذي الجوشن كي ينتزع منه قيادة الجيش، فكانا يتنافسان في الطاعة العمياء ليزيد وابن زياد.
لقد عرف الحسين أنه في مقام القدوة والأسوة لجميع المسلمين، وعرف خطر ما يطلب إليه فعله، تقديم بيعة قسرية إكراهية لمن لا يستحق، وتكريس مصادرة حق الأمة في اختيار من يحكمها، لذلك رفض طلبات الانقلابيين، فقال: “لا والله لا أعطيهم إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد” 38 ، وبعد أن سرت أخبار وإشاعات بأن الحسين طلب مقابلة يزيد لتقديم البيعة، أو الرجوع إلى المكان الذي أقبل منه، أو تركه يقصد إلى منفى اختياري، تكفل بتكذيب تلك الأخبار والإشاعات رجل لم يفارق الحسين حتى قتل، وما من كلمة قالها في المدينة أو في مكة أو في الطريق أو في العراق أو في معسكره إلى يوم مقتله إلا وقد سمعها، وهو عقبة بن سمعان إذ قال: “ألا والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية”. 39
حرب الأخلاق وأخلاق الحرب
بعد الرفض الصريح والقاطع من الحسين للبيعة أعطى يزيد من بعيد الانطلاقة لحرب الأخلاق، وكتب صنيعته عبيد الله بن زياد كتابا إلى عمر بن سعد جاء فيه: ” انظر، فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا، فابعث بهم إلي سلماً، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم، فإنهم لذلك مستحقون، فإن قتل حسين فأوطىء الخيل صدره وظهره، فإنه عاق مشاق، قاطع ظلوم” 40 ، وبدأ التسابق إلى تنفيذ الأمر، قال مسروق بن وائل: “كنت في أوائل الخيل مما سار إلى الحسين، فقلت أكون في أوائلها لعلي أصيب رأس الحسين، فأصيب به منزلة عند عبيد الله بن زياد” 41 ، ولئلا يعجلوه تدرج الحسين معهم في منطق الحجاج ابتداء مما يجمعهم معه من الانتساب لدين واحد، والاعتزاء لنبي واحد هو سبطه وسيد شباب أهل الجنة، والانتماء للإنسانية “إن لم تكونوا أحرار في دينكم فكونوا أحرار في دنياكم”، وفي حرب للأخلاق كهذه جمع الحسين حديث إقامة الحجة عليهم والإعذار إلى الله في خطبة فاصلة هي بمنزلة “بيان الشهادة” جاء فيها: ” أيها الناس؛ اسمعوا قولي، ولا تعجلوني حتى أعظكم بما لحق لكم علي، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري، وصدقتم قولي، وأعطيتموني النصف، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم علي سبيل، وإن لم تقبلوا مني العذر، ولم تعطوا النصف من أنفسكم ” فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمةً ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ” ؛ ” إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين “. أما بعد، فانسبوني فانظروا من أنا، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا؛ هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم صلى الله عليه وسلم وابن وصيه وابن عمه، وأول المؤمنين بالله والمصدق لرسوله بما جاء به من عند ربه! أو ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي! أو ليس جعفر الشهيد الطيار ذو الجناحين عمي! أو لم يبلغكم قول مستفيض فيكم: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لي ولأخي: ” وهذان سيدا شببا أهل الجنة ” ! فإن صدقتموني بما أقول – وهو الحق – فوالله ما تعمدت كذباً مذ علمت أن الله يمقت عليه أهله، ويضربه من اختلقه، وإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم؛ سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، أو أبا سعيد الخدري، أو سهل بن سعد الساعدي، أو زيد بن أرقم، أو أنس بن مالك؛ يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لي ولأخي. أفما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي! فإن كنتم في شك من هذا القول أفتشكون أثراً ما أني ابن بنت نبيكم! فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري منكم ولا من غيركم، أنا ابن بنت نبيكم خاصة. أخبروني، أتطلبوني بقتيل منكم قتلته، أو مالٍ لكم استهلكته، أو بقصاص من جراحة؟ يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إلي أن قد أينعت الثمار، واخضر الجناب، وطمت الجمام، وإنما تقدم على جند لك مجند، فأقبل! أيها الناس، إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض” 42 .
فلما عضهم حجاجه وضعوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا، فتداعوا إلى الإسراع في تنفيذ الجريمة، فسقط أنصار الحسين الواحد تلو الآخر، في مشهد للفداء قل نظيره في الدنيا مذ خلقها الله، منهم حبيب بن مظاهر رضي الله عنه، الذي اجتز قاتله رأسه “فعلقه في لبان فرسه، ثم أقبل به إلى ابن زياد في القصر(الكوفة) فبصر به ابنه القاسم بن حبيب، وهو يومئذ قد راهق، فأقبل مع الفارس لا يفارقه، كلما دخل القصر دخل معه، وإذا خرج خرج معه، فارتاب به، فقال: ما لك يا بني تتبعني! قال: لا شيء، قال: بلى، يا بني أخبرني، قال له: إن هذا الرأس الذي معك رأس أبي، أفتعطينيه حتى أدفنه؟ قال: يا بني، لا يرضى الأمير أن يدفن، وأنا أريد أن يثيبني الأمير على قتله ثواباً حسناً” 43 ، ولما لم يبق إلا الحسين نادى شمر في أتباعه: “ويحكم ما تنتظرون بالرجل، اقتلوه فضربه زرعة بن شريك على كتفه، وضربه آخر على عاتقه، وحمل عليه سنان بن أنس النخعي فطعنه بالرمح، فوقع، فنزل إليه فذبحه واجتز رأسه، ثم انهبوا سلبه، فأخذ قيس بن الأشعث عمامته، وأخذ آخر سيفه، وأخذ آخر نعليه، وآخر سراويله، ثم انتهبوا ماله” 44 ، ثم لينفذ وصية الأمير نادى عمر بن سعد في أتباعه: “من ينتدب للحسين ويوطئه فرسه؟ فانتدب عشرة فأتوا فداسوا الحسين بخيولهم حتى رضوا ظهره وصدره” 45 ، ومرت زينب بالجسد الشريف وهي تقول: ” يا محمداه، يا محمداه! صلى عليك ملائكة السماء، هذا الحسين بالعراء، مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء، يا محمداه! وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة، تسفي عليها الصبا” 46 .
على هذا المنوال تجلت حرب الأخلاق في جيش من الانقلابيين واللصوص الساديين، وفي الجانب الآخر تجلت في معسكر الحسين أخلاق الحرب التي تعلمها من جده رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: ” اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تَغْدِرُوا، وَلاَ تُمَثِّلوا، وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا، أَوِ امْرَأَةً، وَلا كَبِيرًا فَانِيًا، وَلا مُنْعَزِلاً بِصَوْمَعَةٍ” 47 ، ولقد مر شمر قبل بدء القتال بالحسين فقال له أحد أصحابه: ألا رميته بسهم؟فقال الحسين: “لا إني أكره أن أبدأهم”. 48
تسويغ الانقلاب والجريمة
بعد أن دحض الحسين رضوان الله عليه كل حجج الانقلابيين بمنطقه الفصيح وسلوكه الصحيح، تعلقوا بحجة عقدية تحتمل تمويه الجهلاء وتلصق بعقول السفهاء، وهي”الجبرية” أي تحميل مسؤولية كل ما وقع “للقضاء والقدر”، ورسخ الانقلابيون من بني أمية هذه العقيدة، واصطنعوا لتقعيدها وبثها والترويج لها “علماء وفقهاء”، وهكذا:
– فانتهاء واقعة كربلاء باستشهاد الحسين”فتح من الله”، عن حميد بم مسلم قال: “دعاني عمر بن سعد فسرحني إلى أهله لأبشرهم بفتح الله عليه وعافيته” 49 .
– بعد أن نجا علي بن الحسين من القتل، أُدخل على عبيد الله بن زياد فقال له: “ما اسمك؟(قال علي) قلت: علي بن الحسين، فقال: أو لم يقتل الله عليا؟(كذا الله هو الذي قتل)، قلت: كان أخي يقال له علي أكبر مني قتله الناس، قال ابن زياد: بل الله قتله” 50 .
– وأُدخلت زينب أخت الحسين على ابن زياد فقال لها: “الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثثكم، فقالت: الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وطهرنا تطهيرا، لا كما تقول أنت، قال: فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك” 51 ، فحسب ابن زياد الله هو الذي قتل وهو الذي صنع، تعالى الله عما يوقولون علوا كبيرا.
– لما أدخل السبايا ومعهم علي بن الحسين على يزيد قال: يا علي أبوك الذي قطع رحمي، وجهل حقي، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما رأيت” 52 وقال له في مشهد تمثيلي فاضح: “لعن الله ابن مرجانة، أما لو أني صاحبه ما سألني خصلة أبدا إلا أعطيتها إياه، ولدفعت الحتف عنه، بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن الله قضى ما رأيت” 53 .
ولذلك إذا نحن قلنا بأن الحسين نهض لمواجهة”الردة السياسية” بموجب نص من الله على تنصيبه إماما، سنجعل من منطق الحسين منطقا “جبريا”، وسنختلق نوع اتحاد بينه وبين منطق قاتليه والانقلابيين، بين الضحية والجلاد من حيث لا ندري.
وظل “المنطق الجبري” ملازما للأسر التي تعاقبت على حكم المسلمين بعد الأمويين، فقد جاء في خطبة لأبي جعفر المنصور يوم عرفات: “ايها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وأنا خازنه على فيئه، أعمل بمشيئته وأقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه، وقد جعلني الله عليه قفلا إذا شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم فيئكم وأرزاكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني قفلني”.
في نتائج إخماد “الثورة” على”الردة السياسية”
لقد أدرك الصحابي الجليل زيد بن أرقم- رضي الله عنه- ببعد نظره أن أمرا جللا سيعقب قتل الحسين فقال: “أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم” 54 فنبهت قولته على نتيجية تعد من أهم وأخطر النتائج التي ترتبت على إخماد “الثورة” الحسينية على”الردة السياسية”: الاستبداد والاستعباد، فما أن أخمد يزيد “ثورة” أهل المدينة على عمال بني أمية حتى أكره الناس على البيعة له بأنهم”عبيد يزيد بن معاوية، فكان الرجل يؤتى به، فيقال: بايع على أنك عبد قن ليزيد” 55 ، ولذلك كان أبو هريرة يقول: ” أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان”، يعني ملك يزيد بن معاوية 56 ، وكان سعيد بن المسيب يسمي سِنِي يزيد بالشؤم 57 ، ويروي الإمام الذهبي عن المطلب بن السائب قال: “كنت جالسا مع سعيد بن المسيب بالسوق فمر بريد لبني مروان، فقال له سعيد: من رسل بني مروان أنت؟ قال: نعم، قال: كيف تركت بني مروان؟ قال: بخير، قال: تركتهم يُجيعون الناس ويُشبِعون الكلاب” 58 . وقال سليمان بن عبد الملك لأبي حازم الأعرج: “ما تقول فيما ابتلينا به؟ قال: أعفنا من هذا وعن الكلام فيه أصلحك الله، قال سليمان: نصيحة تلقيها، فقال: ما أقول في سلطان استولى عنوة بلا مشورة من المؤمنين، ولا اجتماع من المسلمين؟ فسُفِكت فيه الدماء الحرام، وقطعت به الأرحام، وعطلت الحدود، ونكثت به العهود” 59 .
وعلى الرغم من الجهود التي بذلها المصلحون في مضمار الفقه السياسي لتمكين الأمة من حقها في الاختيار والشورى، فقد تدحرجت من ذلك الزمان إلى العصر الحاضر عبر الأجيال والقرون تقاليد بذل الطاعة المطلقة للحاكمين مهما أسرفوا في الظلم والاستبداد، هذه الطاعة المطلقة أحسن ابن خلدون المؤرخ في تسميتها ب”دين الانقياد” بالنظر إلى منشئها الأول القائم على العصبية القبلية، وإلى مآلها القائم على خضوع الناس التام لها، يقول ابن خلدون: “إذا استقرت الرئاسة في أهل النصاب المخصوص بالملك في الدولة وتوارثوه واحدا بعد آخر في أعقاب كثيرين ودول متعاقبة نسيت النفوس شأن الأولية، واستحكمت لأهل ذلك النصاب صبغة الرئاسة، ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم والتسليم، وقاتل الناس معهم على أمرهم قتالهم على العقائد الإيمانية، فلم يحتاجوا حينئذ في أمرهم إلى كبير عصابة بل كأن طاعتها كتاب من الله لا يبدل ولا يعلم خلافه” 60 ، ولقد كان “شأن الأولية” في تاريخنا هو الانقلاب على”الخلافة الراشدة” والفتك برائد المواجهة “للردة السياسية” الحسين رضوان الله عليه، ولم يعد الأمر يحتاج إلى عصابة الحكم لفرض الطاعة المطلقة، لأنه آل إلى ضرب من تلذذ المحكومين المغلوبين على أمرهم بالخضوع الذي تقعد بفقه”الأحكام السلطانية”، فعندما تحدث الباجوري عن طرق تعيين الإمام ذكر منها: “وثالثها: استيلاء شخص مسلم ذي شوكة متغلب على الإمامة ولو غير أهل لها كصبي وامرأة وفاسق وجاهل، فتنعقد إمامته لينظم شمل المسلمين، وتنفذ أحكامه بالضرورة” 61 . قاعدة سهلة لتخريج أشباه” يزيد” و”الحجاج” بلا شك.
ولم يبعد كثيرا المفكر الفرنسي “إيتيان دو لابواسييه” عما قاله ابن خلدون عند حديث هذا الأخير عن “دين الانقياد”، فتعجب “إيتيان” في كتابه “مقالة في العبودية المختارة” مما ذكرناه سالفا من استسلام المحكومين فقال: “لست ابتغي شيئا إلا أن افهم كيف أمكن هذا العدد من الناس، من البلدان، من المدن، من الأمم، أن يحتملوا أحيانا طاغية واحدا لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه، ولا من القدرة على الأذى إلا بقدر احتمالهم الأذى منه، ولا كان يستطيع إنزال الشر بهم لولا إيثارهم الصبر عليه بدل مواجهته” 62 ، وسأل نفسه عن سر تلذذهم بالخضوع فقال: “ولكن ما هذا ياربي؟كيف نسمي ذلك؟أن نرى عددا لا حصر له من الناس، لا أقول يطيعون بل يخدمون، ولا أقول يُحكمون بل يُستبد بهم..أن نراهم يحتملون السلب والنهب وضروب القسوة لا من جيش ولا من عسكر أجنبي ينبغي عليهم الذود عن حياضهم ضده، بل من واحد لا هو بهرقل ولا شمشون، بل هم خنث” 63 ، ليخلص إلى القول: “الشعب هو الذي يقهر نفسه بنفسه ويشق حلقه بيده، هو الذي ملك الخيار بين الرق والعتق فترك الخلاص وأخذ الغل، هو المنصاع لمصابه، أو بالأصدق يسعى إليه” 64 .
إن تاريخ كثير من الأمم قد عرف نظير ما حدث لدينا من انحطاط في الفقه السياسي، لكنها استطاعت بتضحيات شعوبها ومفكريها ومصلحيها أن تتصالح على وضع آليات لتدبير الاختلاف والتداول السلمي على السلطة، بينما تجري لدينا أيضا جهود حثيثة “لمأسسة الاستبداد” بشكل يمكننا من الحديث عن”استبداد حداثي” يسهل عليه عملية التحكم صغر الرقعة الجغرافية للدولة القطرية، وأطرافُه لوبيات داخلية وخارجية ضاغطة تلتقي مصالحها مع مصالح الفرد المستبد، ويُسيِّج مصالحه بدساتير ممنوحة، وأمام انتشار ثقافة “الديموقراطية” و”حقوق الإنسان” لم يعد بإمكان “الاستبداد الحداثي” أن يسوغ استبداده بالجبرية الأموية، ولكنه أخذ يسوغه تارة بدعوى الخصوصية كأن خصوصيتنا أن نحكم بالقهر والغلبة، وتارة أخرى بدعوى الحفاظ على “النظام العام”.
لقد وقع الكلام في هذه المقالة عن مواجهة الحسين”للردة السياسية” موقع التنبيه على صفحات سوداء من تاريخ الملك العاض الذي انقلب على”الخلافة الراشدة”، أعدنا فتحها لا لمداومة تنزيف الجروح الأليمة، ولا لاشتقاق سلوك الأجيال من أكدارها، وإن إحجام البعض عن فتحها خوفا وحذرا من السقوط في “فخ” اللغة المشتركة مع “الشيعة” لن يسهم إلا في تأبيد الاستبداد والطغيان في بلاد المسلمين الذين ما أحوجهم إلى تطوير نظامهم السياسي على قواعد الشورى الملزمة والعدل في الحكم والقسمة، والاستفادة مما عند غير المسلمين من حكمة بشرية.
[2] السنن الكبرى للبيهقي 7/513.\
[3] المعجم الكبير للطبراني 3/159.\
[4] المستدرك على الصحيحين 11/140.\
[5] سنن الترمذي 12/244.\
[6] السنن الكبرى 7/513.\
[7] سنن الترمذي 12/254.\
[8] مصنف ابن أبي شيبة 2/174.\
[9] شرح نهج البلاغة 3/110.\
[10] مسند الإمام أحمد، 6/ 384.\
[11] صحيح البخاري، باب قول النبي – صلى الله عليه وسلم- هلاك أمتي على يدي أغيلمة من قريش 9/ 85.\
[12] المصدر نفسه.\
[13] مسند الإمام أحمد، 8/ 215.\
[14] المصدر نفسه، 8/ 215.\
[15] نهج البلاغة، 2/8.\
[16] ثقات ابن حبان 2/267.\
[17] أي توليت الحكم من غير رضا الناس، تاريخ اليعقوبي، 2/ 217.\
[18] تاريخ خليفة بن خياط ص 214.\
[19] أمالي القالي 2/175.\
[20] تاريخ خليفة بن خياط ص 213- 214.\
[21] المصنف لابن أبي شيبة 3/816.\
[22] ابن عساكر، تاريخ دمشق 37/151.\
[23] البداية والنهاية 8/157.\
[24] نفسه.\
[25] نفسه.\
[26] نفسه.\
[27] نفسه.\
[28] تاريخ الرسل والملوك 3/261.\
[29] البداية والنهاية 8/168.\
[30] نفسه 8/178.\
[31] تاريخ الرسل، الطبري 3/259.\
[32] نفسه.\
[33] تاريخ الطبري 3/259.\
[34] نفسه.\
[35] نفسه.\
[36] نفسه 3/264.\
[37] نفسه.\
[38] تاريخ الطبري 3/273.\
[39] نفسه 3/259.\
[40] نفسه 3/266.\
[41] نفسه 3/276.\
[42] نفسه 3/272.\
[43] تاريخ الطبري 3/280.\
[44] المنتظم لابن الجوزي 2/199.\
[45] تاريخ الطبري 3/285.\
[46] نفسه 3/287.\
[47] صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير.\
[48] المنتظم 2/198.\
[49] تاريخ الطبري 3/288.\
[50] نفسه 3/288.\
[51] نفسه.\
[52] المنتظم لابن الجوزي 2/199.\
[53] تاريخ الطبري 3/290.\
[54] تاريخ الطبري 3/288.\
[55] تاريخ اليعقوبي 1/209.\
[56] ابن حجر، فتح الباري 1/ 216- 217.\
[57] نفسه، 2/ 253.\
[58] الذهبي، تذكرة الحفاظ، 1/ 54- 55.\
[59] ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 2/ 155.\
[60] المقدمة ص 159.\
[61] ابراهيم بن محمد الباجوري، حاشية الباجوري على ابن قاسم الغزي.\
[62] مقال في العبودية المختارة.\
[63] نفسه.\
[64] نفسه.\