مقدمة
يعود الدخول الجامعي الجديد، وتعود معه الأسئلة المقلقة المحرقة عن مدى قدرة الجامعة المغربية ليس فقط على أداء وظائفها التربوية والتعليمية والأخلاقية والتنموية، وإنما عن مدى قدرتها -وقد قضت سنوات طويلة في التجريب المتعدد للبرامج الإصلاحية- على تهيئة بيئة جامعية ملائمة لاحتضان الطلبة الواردين، وعلى إعدادهم معرفيا ومهاريا وقيميا للإندماج في الحياة العملية، وعلى إيجاد فرص للترقي الاجتماعي، وكذا مدى قدرتها على التأسيس لبحث جامعي ذي جودة وجدوى تخرجان جامعاتنا من اعتزالها للمراكز المتقدمة من التصنيف الدولي.
تعيد الأسطر أدناه على نحو مجمل مساءلة استراتيجات الدولة في شعارات مخططاتها في القطاع، وتناقش تعثرات المنجزات في الواقع، لتؤكد أن الحاجة ماسة اليوم قبل الغد إلى أن يكتسب التعليم العالي المغربي مثله مثل مختلف مسالك المنظومة التربوية المغربية هوية واضحة للجامعة المغربية تعي أي جامعة نقصد؟ وأي طالب نريد؟ وأي منهجية نحتاج لمقاربة إصلاح ناجع ناجح يسعدنا بأن ينتشلنا من النزيف الذي يقتل طاقات البلاد، ويهدر مقدراتها في زمنٍ الخطأ فيه في التعليم يساوي الخطأ في استدامة الوجود في عالم المعرفة الهدار الموار.
التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار: شعارات المخططات
تنبني التوجهات الاستراتيجية العامة لقطاع التعليم الجامعي والعالي والبحث العلمي والابتكار على الاستمرار في تنزيل مضامين الرؤية الاستراتيجية ومقتضيات القانون الإطار؛ وذلك عبر إعداد حافطة لمشاريع تستهدف تحقيق أهداف قطاعية تمتد خلال الفترة ما بين 2017 و2030، تروم تحقيق الإنصاف وتكافؤ الفرص، والارتقاء بالجودة، والرفع من الحكامة ومستويات التعبئة، وتطوير البحث العلمي والابتكار، وتغطي مجالات سبعة تتوجه إلى توفير العرض الجامعي وضمان العدالة المجالية، وتحسين التأطير التربوي، وتجويد التكوين، وتنويع التمويل، وبلوغ النجاعة والفاعلية، وتحقيق الارتقاء بالبحث العلمي والابتكار 1.
وإن مما سيترجم هذه التوجهات الاستراتيجية، إطلاق المخطط الوطني لتسريع تحول منظومة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار (PACTE ESRI 2030)، وهو المخطط الذي سيجد مرجعيته أولا في ما قدمه النموذج التنموي الجديد من توصيف يشخص الإشكالات العديدة لواقع الجامعة المغربية في الاحتضان والتأطير، وفي الجودة والإدماج، وفي الانفتاح وتقدم البحث العلمي، وثانيا في ما سطره البرنامج الحكومي 21/26 من أولويات تمس الرأسمال البشري، وجاذبية البنيات، وتطوير التوجيه الجامعي، والتجسير بين التكوين والمهن 2.
يضع هذ المخطط نصب عينيه إرساء “نموذج جديد للجامعة المغربية”، وذلك عبر رفع شعارات تريد إصلاحا بيداغوجيا شاملا ومندمجا، وحكامة فعالة ناجعة، وبحثا علميا ذا معايير تنافسية، وتوطينا للابتكار في المجال الترابي المحلي، وتكريسا للتميز الأكاديمي، وتسريعا للتحول الرقمي والتقني. ولعل من أهم ما يطرحه هذا المخطط توجهه نحو تعزيز التميز البيداغوجي من خلال فتح مسالك مبتكرة في التكوين، وتعزيز المكتسبات اللغوية، وتنمية المهارات الحياتية والرقمية والفنية، والتوجه نحو ملاءمة التكوين مع حاجات الاقتصاد، واعتماد تعدد الأنماط التدريسية، وتطوير نظام التقويم، وتنويع المسارت، والعمل بالمشاريع، والانخراط في تنمية مقتضيات الحياة الجامعية. هذا إلى جانب تقوية جودة الضوابط العلمية والبيداغوجية الوطنية في مجال إعداد الأطاريح الجامعية وممارسة البحث العلمي، مع الاعتناء بتعزيز الأخلاقيات والشفافية، وتنمية الانفتاح الدولي.
إنه ليس بالممكن في نظرنا مقاربة هذا البعد الاستراتيجي العام الذي تتقدم به الوزارة في مجال التعليم العالي والبحث العلمي، في معزل عن معطيات سياقات ضابطة مؤطرة ضاغطة؛ يتعلق بعضها بعظم الاختلالات القوية التي عرضها النموذج التنموي الجديد، والتي تقف حجرة عثراء –بالنظر إلى حجمها وتراكمها التاريخي- أمام التقدم المنشود في هذا القطاع المفروض أن يكون قاطرة التنمية والتقدم، ويكفي الاستدلال هنا بأن مخرجات الجامعة المغربية عندنا فظيعة ومقلقة (40 % من الطلبة يغادرون الجامعة دون دبلوم، نسبة مساهمة الإنتاج العلمي للمغرب برسم سنة 2016 لا يمثل سوى 1,5 ‰ من الإنتاج العالمي، و400 ألف من الشباب يلجون سوق الشغل إن وجد دون بكالوريا) 3. ويتعلق بعض تلكم السياقات أيضا بجملة الاحتقانات التي تعرفها الجامعة المغربية كل عام بسبب هواجس الضبط الأمني الذي يحول دون ممارسة الحريات النقابية والأنشطة الطلابية، وبسبب المشاكل التي تمس الوضع الاعتباري للباحثين والمكونين بالجامعات، وكذا بسبب القرارات الإدارية العشوائية التي كان آخرها ما يتعلق بمراجعة سنوات التكوين في كليات الطب. ولا يمكن هنا إغفال ما راج مما فاح وذاع من ممارسات الفساد الأخلاقي والإداري، والتآكل القيمي العام 4. وهي سياقات تفرض مساءلة مدى الوضوح العام في المشروع المجتمعي العام الذي تنطلق منه الجامعة المغربية في صياغة رسالتها، وبلورة رؤيتها، وإعداد برامجها، وتنفيذ مشاريعها، أم أننا لسنا سوى بصدد عملية تمطيط تعيد إنتاج الممارسات القديمة في حلل متجددة تلهث من أجل اللحاق بالعالم المتقدم على أرضية الدعم المالي الدولي، من دون وضع المصلحة الوطنية والحاجات القومية في الاعتبار؟
التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار: تعثرات المنجزات
لا تفتأ الوزارة تتفاخر بمنجزات جمة حققتها في ميدان العرض الجامعي (مثلا بلوغ العدد الإجمالي للطلبة بالجامعة المغربية برسم الموسم الجامعي 23/24 1,301,439 بارتفاع قدره 6,8 % عن موسم 22/23 مع ارتفاع بالتعليم الجامعي العمومي بنسبة 6,3%، وبالعمومي غير التابع للجامعة ب 8%، وبالتعليم العالي الخاص ب 6%. ارتفاع الطلب على الجامعة المغربية بزيادة في الطاقة الاستيعابية بحوالي 18,600 مقعدا. ارتفاع عدد الطلبة في الأوراش المفتوحة المرتبطة بتكوين الأساتذة والمهندسين والأطر الإدارية والتقنية وبرنامج تكوين 10,000 أخصائي اجتماعي) 5، وكذا في ميادين تحسين الخدمات العمومية المقدمة للطلبة، وتسريع التحول إلى “الجامعة المغربية الرقمية، المقاولاتية الشاملة”، وتنويع مصادر التمويل من أجل تحديث البنى التحتية، وتشجيع المبادرة والاندماج في الحياة الطلابية الفنية والرياضية، وتقوية سبل الإدماج في سوق الشغل، وغير ذلك من مجالات أخرى تتعلق بفتح المجال للتعليم الجامعي الخصوصي تنويعا للعرض التربوي، وتجويد التكوين الأساسي والمستمر، وتجديد نظام التدريس البيداغوجي، وترسيخ أنظمة الحكامة والشفافية، وتنمية مشاريع الانفتاح الدولي، والاعتناء بالكفاءات الوطنية.
تلكم هي الشعارات، وتلكم هي المنجزات، بيد أن الواقع الذي لا يرتفع ولا يريد أن يرتفع، يقول إن التعثرات (غيض وفيض) كثيرة كثرة المنجزات المتغنى بها؛ بدءا بهذه البرامج التي تقول إنها استراتيجية، وهي لم تصنع إلا في دهاليز التحكم والتفرد، وعلى يد الخبراء التقنويين، وعلى أعين المانحين الدوليين، وهو ما يطرح قضية الاستقلال السيادي في إعداد مشاريع تناسب حاجياتنا وظروفنا وبأيدي الخبرة الوطينة. ثم تثنية بهذا التفاخر المتكاثر بالرقمنة وتعدد أنماط التعلم في ظل تقارير وطنية بهشاشة التهيئة الرقمية وسوء العدد المعلوماتية. ونثلث بواقع العرض المدرسي الذي يكرس مظاهر التفاوتات المجالية، ويضرب مبادئ العدالة التعليمية وتكافؤ الفرص. وتعثرات رابعة تنضاف إلى أثافي الإشكالات لتحدثنا عن التمكين للوبيات التعليم الخصوصي، والمس بالحق الدستوري في متابعة التعليم، وارتفاع الهدر المريع في صفوف الطلبة، وعدم القدرة على ولوج سوق الشغل، واستمرار هدر حقوق الشغيلة، وتضييع الكفاءات. ولا تسل بعد عن غياب آليات المراقبة، وعن هدر المال العام في برامج لا تضمن قوتا ولا صحة، ولا عن بحث علمي وابتكار تقني لا مكان لهما في مراتب التصنيف الدولي.
أما الجانب البيداغوجي التربوي فهو “القشابة” التي تتعاورها أيدي الخياطين غير المهرة ولا المتقنين، ليقطعوا أوصالها، ويفصلوا خيوطها تارة بنظام lmd، وأخرى بنظام الباشلور، وطورا بالخليط منهما، مع تزويقات من ضحالة في المكونات المعرفية، وتشكيلات من أخلاط لغوية، وتنميقات من تركيبات التنشيط الحياتي والفني، تضيع معها الذخيرة العلمية الكافية في التخصصات المختلفة، والكفايات المهارية اللازمة لمجابهة سوق متوحش متغير، والأبعاد القيمية الأخلاقية الملائمة للعيش في زمن التيه والضياع الهوياتي. فنعود لنجد أنفسنا، وكأننا لم نغادر جوهريا مربع الصفر مما رفعه الميثاق منذ التسعينات، ورفعته قبله برامج الإصلاح العتيقة القديمة: لم نتحرك جديا نحو بلوغ عتبات مفرحة من الناتج الداخلي الخام التي حددها الميثاق في جانب البحث العلمي، لم تحتضن جامعاتنا طلبتنا فأسهمت في ارتفاع ظواهر الانقطاع والتسرب والهدر من دون الحصول على شواهد جامعية، لم نربط بحثنا العلمي بالأهداف التنموية، لم نحسم في الاختيارات اللغوية، مازالت ازدواجية أنظمة الاستقبال تتحكم فينا، المردودية الداخلية والخارجية ضئيلة غير مفرحة، والطامة الهامة تفشي التردي والانحطاط الأخلاقي، وتضاؤل الأبعاد المتعلقة بالكفاءة والاستحقاق.
خلاصات وتساؤلات
شتان بين الشعارات المحلقة في سماء المخططات وبين التعثرات النازلة في أرض المنجزات، الأولى تعد بالتحول والتميز والجودة والحكامة والإدماج والتحديث، والثانية طافحة بالتنكب الواضح الفاضح عن سبيل كل ذلك، لنكون إزاء مفارقات صارخة بين المعلن والمنجز. وهنا تعرض أسئلة هي مقلقة محرقة أيضا: ما الذي يجعل جهد الإصلاح الجامعي في مسيرته التاريخية بلقعا من الثمرات اليانعات؟ هل كان لدى الدولة نية حقيقية للإصلاح، وإرادة سياسية جادة للتغيير؟ هل واقع التعثرات المتكاثرة المؤبدة نتيجة لأخطاء التسيير والتدبير أم مخرجات مقصودة لإرادة التحكم والتجهيل وإعادة إنتاج التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية؟ أليس بالبلاد من الطاقات والكفاءات ما يضمن التأسيس لجامعة وطنية تحترم هوية الشعب وتخدم مصالحه؟ أليس الانحلال الخلقي والتردي القيمي الذي “يأكل” الجامعة محصلة نهائية للاختراقات الممنهجة للنخب المغربة المقطوعة عن الأمة؟ أليس في تعدد برامج ومشاريع الإصلاح المتنامية المتناسخة المستوردة تضييعا لزمن التعلمات وهدرا للمال العام؟
إن مكمن أزمة الجامعة هي مكمن أزمة التعليم بالمغرب كله في تاريخه جميعه؛ تعليم مفتون مُغَرَّب في هويته، تائه في اختياراته، تابع في رؤيته، ضائع في مناهجه، صانع للأمية، وقاتل للطاقات، هادر للمال. وإن المخرج الناجع تحرير التعليم من يد الاستبداد، وسفه الفساد، وذلة التبعية، وإن المخرج الناجع أن نعي جميعا أن لا منجى من الجهل والتخلف والذيلية والدونية إلا بالتعليم، وأن سبيل ذلك الأوحد أن نبتكر نموذجنا التربوي التعليمي الذي يحفظ هويتنا، ويستجيب لأولوياتنا، ويضمن لنا تربية وتعليما وتعليما وتربية لا ينفصلان ولا ينشقا، والذي يمكننا من امتلاك منظومة متكاملة من القيم والمعارف والمهارات والكفايات التي تسعفنا في الوجود وسط الأمواج العاتيات للزخم المتدفق من ميازيب التحديث الهاجمة الكاسحة للتطور التقني والصناعي الذي يسوق في طريقه كل الغثاء نحو وهدات التخلف العميقة.
[2] البرنامج الحكومي 2021 /2026. والتقرير العام حول “النموذج التنموي الجديد: تحرير الطاقات واستعادة الثقة لتسريع وتيرة التقدم وتحقيق الرفاه للجميع”.
[3] اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد “مجموع المذكرات الموضوعاتية والرهانات والمشاريع المقترحة في إطار النموذج التنموي الجديد” الملحق رقم2، أبريل 2021.
[4] المملكة المغربية، البرلمان، مجلس النواب، المركز البرلماني للدراسات والأبحاث، الدراسة الميدانية الوطنية حول القيم وتفعيلها المؤسسي: تغيرات وانتظارات لدى المغاربة، القيم وسؤال التنمية في المجتمع المغربي الحصيلة والآفاق، الدراسة الوثائقية، التقرير 1 و2 و3 دجنبر 2022.
[5] انظر: عرض وزير التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، لجنة التعليم والثقافة والاتصال، مجلس النواب، 25/10/2023. وثيقة تقديم مشروع الميزانية الفرعية لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار برسم السنة المالية 2024، عــــرض وزير التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، لجنة التعليم والثقافة والاتصال، مجلس النواب، 7/11/2023. و”تطور مؤشرات التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار”، وثيقة التعليم العالي في أرقام: 2022/2023.