في وقت يتخبط الإعلام ومعه نسبة كبيرة من الرأي العام المغربي، في زوبعة لا تتوقف، من النقاشات الهامشية التي تتلاعب بها رياح التفاهة و”البوز” والبحث عن “الطوندونس”، بالأبعاد الفضائحية المعلومة التي من أهم سماتها؛ السطحية والابتذال والتيه القيمي الصارخ..
في هذا الوقت بالضبط، حريٌّ بنا أن نشكر بعض الفعاليات الإعلامية المغربية الغيورة، التي لا زالت واقفة في الميدان، بحِلم ونضج وأصالة وعمق، لا تستسلم للسيل الجارف، ولا تندفع بغرور وراء القشور والعوارض، بل ترفع التحدي وتحاول تغيير المجرى، صوب القضايا الحقيقية وذات الأولوية بالنسبة للشعب المغربي، وعلى رأسها قضايا الحريات العامة، وقضايا القيم، والتربية، والاستقرار الاجتماعي، الذي تعد الأسرة من أبرز عناوينه.
في هذا السياق نحيي عاليا ثلة من الناشطين، والإعلاميين، والدعاة، والمُربّين، والشباب المستنير… وهم يطلقون حملة لترسيخ القيم الأصيلة الداعمة للتماسك الاجتماعي والبانية للمستقبل بعيدا عن أورام التيه الأخلاقي الفاقد للبوصلة، وأمراض الحداثة المعطوبة المجترّة، والتشوهات التي تدافع عنها الدوغمائية المتشنجة لحراس بنية الاستبداد الحارس للفساد..
بعيدا عن هذا، هناك حملة إعلامية جيدة وطموحة، تشجع على الزواج وتسعى إلى تمتين بناء الأسرة المغربية في ظل التربصات المحيطة والمكبر الكُبّار لسدنة الصهيونية للعالمية ومعتنقي مذهبها الشيطاني التدميري المتوحش لكل بنيان قيمي وعمران.
فلماذا الزواج بالضبط؟ وما هي أبرز العوائق والموانع التي تقف أمام طموح الحملة؟ وما هي الأدوار المطلوبة من الإعلام الوطني إزّاء مثل هذه المبدرات؟
أولا: لا يحتاج الأمر لبيان أهمية استقرار الأسرة وأمنها في ضمان استقرار المجتمع وأمنه، ولعله من أبرز مداخل بناء الأسرة المستقرة المتماسكة هو إنجاح خطوة الزواج بما هو مسار أيضا من الوعي والنضج وتحمّل المسؤولية، والسبيل إلى العفة والكرامة والتقاسم وتمتين البنى الاجتماعية، ما دام أكبر من مجرد التقاء فردين اثنين، بل التقاء عائلتين وتلاقح ثقافتين، وربما تمازج عرقين وانصهار أكثر من مكون هوياتي يزيد من فرص دعم الهوية الوطنية بمختلف أبعادها.
ثانيا: ليس الزواج مجرد وسيلة لصناعة الاستقرار الأهلي، ودعم التماسك المجتمعي، وخدمة تلاقح مكونات الهوية الوطنية، ولا حتى مجرد مدعاة لمضاعفة فعالية الأفراد وانخراطهم في العمل والإنتاج لمواكبة متطلبات بناء الأسرة وتربية الأبناء، رغم أنه باعث اقتصادي أساسي وحيوي في خدمة الدينامية الإنتاجية والتنموية المطلوبة، لكونه مداخلا لتكوين الأسرة، فإنه يعدّ من أبرز قواعد حماية المستقبل، بتأمينه الماضي، ورعاية الحاضر. فالأسرة هي أبرز ناقل للقيم، وأهم قناة للتنشئة الاجتماعية، وأمتن معقل استراتيجي لترسيخ أسس القيم وغرس بذور الهوية، والدفاع عنها ضد مختلف عوامل الهدم ومعاول التعييب والطعن والإغارة. إن بناء الأسرة والعمل على توفير شروط استقرارها ونمائها هو عينُه الدفاع عن وجود الكيان الجماعي واستمراريته وضمان محافظته على جوهره وإثبات جدارته.
ثالثا: يعتبر الزواج خروجا من الانتظارية المعطّلة للفعل الاجتماعي والاقتصادي والتنموي، والمهدرة للطاقة والزمن التنموي، والقوة الاجتماعية اللازمة لأي إقلاع استراتيجي، وتأمَّلْ معي رعب حكومات الغرب من التدني المهول لنسبة النمو الديموغرافي، وتأمَّلْ معي كذلك هروب الشباب من بلدان القمع والهشاشة نحو بلدان تحتضن جهدهم الإنتاجي وطاقتهم الاجتماعية عوض أن تستفيد منها بلدانهم وأوطانهم.
إن من أبرز معيقات التحفيز على الزواج في الوسط المغربي، إضافة إلى العوامل الاقتصادية ذات الأثر الكبير، نجد التمثلات المكرّسة إعلاميا واجتماعيا حول الزواج، حيث أصبح، بسبب عوامل متظافرة، منعطفا مخيفا للشباب، وطريقا موحشة تفضي إلى “الهلاك المحقق” في ظن الكثيرين.
بحيث تحس أحيانا كأن هناك استراتيحية شبه معلنة، على المستوى الإعلامي أساسا، لتشجيع التمرد القيمي بشكل عام، والتحلُّل من فكرة الزواج بشكل خاص (التّزوفريت)، ورعاية الانحراف القيمي والسلوكي، عبر التبنّي المباشر ودعم منحى التمكين الثقافي والقانوني من جهة، أو عبر التغطية التبريرية التي تأخذ أحيانا شكل محاولات “بريئة” للفهم، ومن ورائها تكريس واقع “التفهُّم” المخادع، الذي ينقل الظاهرة من معطى “الإشكال” ومنطقة “الشك والاتهام” إلى وضعية التعاطف والاعتراف، لتصبح واقعا قائما مسلّما به، ومن ثمة حيازة المشروعية الضمنية. ولنتأمل حجم السخرية والانتقاد ونسبة الهجوم على قيم الأسرة وتحطيم عمودها الفقري الأساسي الذي هو فكرة الزواج. وهو الأمر الذي لم يعد يظهر معه، من خلال مسلسل الهدم والتعييب، إلا الجانب السلبي المحذِّر من خوض المغامرة وسلوك السبيل، ومن ذلك أن الزواج يحدُّ من الحرية ويضاعف الرقابة والقيود والشكوك إزاء الانطلاق الشبابي في الحياة، وأن الزواج مَضِنَّة الإرهاق نظرا لكثرة الواجبات وتضاعف الالتزامات المبالغ فيها، قبل الزواج وبعده. إضافة إلى حجم التخويف ومنسوب التهويل إزاء تبعات الطلاق وتكاليفه ومشاكله التي لا تنتهي.
طبعا، لا يمكن القفز على كل تخوف مشروع، ولا المجازفة بالزواج دون أدنى تدبير عقلاني واقعي، لكن الارتهان للتمثُّلات “المخيفة” والاستسلام لدواعي “النكوص” و”التأجيل” يتم دفع كلفته غاليا على المستوى الفردي والجماعي. كما أن فكرة التصدي لظاهرة العزوف عن الزواج لا ينبغي أن تفك الارتباط بقضايا وثيقة الصلة بمسألة الزواج وبناء الأسرة، وعلى رأس ذلك، التشجيع على العمل والاجتهاد وتجاوز ركود الإرادة، وسقوط الهمة، وقلة الحيلة، وتصدُّر الاتكالية، وضمور الإبداع في مجال العمل، وفي تدبير الدخل المادي، كما لا يجب أن يغيب الحديث، عن كيفية تحفيز التضامن الاجتماعي، وتقوية الإسناد العائلي (وكم من دور فارغة طوال سنوات، لم يستفد أصحابها من تأجير ولا حسنة).
كما لا يفوتنا التذكير بضرورة إطلاق نقاش وطني حول القيم المجتمعية المطلوبة، وأدوار الإعلام الوطني المشارك في البناء والتنمية، لا الإعلام التائه، أو الضالع في الإلهاء والتعمية.
وأخيرا، يعد ورش إصلاح مدونة الأسرة، فرصة وطنية حقيقية لإرساء أساس قانوني صلب، تبنى عليه الأسرة، ويتيسّر الزواج وتنساب الحياة طيبة مؤطَّرَة بميثاق تسنده تربية، فوجب إذا التعاطي مع هذا الورش بحس وطني واستراتيجي عال، ووفق رؤية قيمية أصيلة تفوِّتُ الفرصة على المتلاعبين بأسس الهوية ومرتكزات الاستقرار الاجتماعي في هذا البلد، بالقدر نفسه الذي تفتح الأبواب نحو المستقبل، وتتجاوز بعض الاختلالات القائمة، وفق مقاربة معتدلة ومتوازنة وشمولية، لا تجري وراء سراب الشعارات الكونية البرّاقة التي سقط الكثير منها سقوطا مدويّا في الحرب الأخيرة..
وإن الزواج لنعمة، تباركها النيّة، وتدعِّمُها الحكمة، ويَسُدُّ ثغراتِها الصبر الجميل وبسط المودّة، بشرط تصحيح التمثُّلات الخاطئة، واعتناق واقعية المقاربة، وعدم الارتهان الكُلِّي للأبعاد المادية الصرفة، وبهذا المعنى يكون الزواج عبادة بما أنه امتثال لسنة الله تعالى وشرعه وأمره من جهة، ومن جهة ثانية؛ ارتقاءٌ متصاعدٌ إلى ذلك الرُّوحي السامي المتطلع إلى الآخرة، يوم يقال للفائزين المفلحين: اُدخُلوا الجنّةَ أنتم وأزواجُكُم تُحبَرون.