طوفان الأقصى حدث عابث أو إنجاز بطولي؟
بمنظور التحليل الأرضي المادي الجدلي، كان طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر مغامرة غير محسوبة العواقب…
بمنطق التحليل السياسي التاريخي، كان طوفان الأقصى خطأ استراتيجيا لا يقرأ الوضع الدولي، ولا يعي حجم الخصم، ولا يفقه موازين القوى…
بمنطق الواقعية السالكة في وحل التطبيع، كان طوفان الأقصى عملا عبثيا، لم ينتج سوى تعطيل مسار التسوية، ومسيرة التنمية التي تضمن التعايش والتسامح…
بمنطق المرجئة القاعدة المتواكلة، كان طوفان الأقصى عملا حماسيا، لم يجرّ وراءه سوى الدم والهدم والردم، لأنه طاول الغالبين المتمكنين، ونازع قدر الله في تسلطيه العدو على الناس بسبب ما كسبته أياديهم…
بمنطق العوام السذج الغافلين، كان طوفان الأقصى خليطا من البحث عن المشاكل، واللعب بالنار، وانعدام “العقل”، والتدخل في ما لا يعني، والطموح السياسي، والطمع في المال والمناصب…
بالمقابل، وبمنظور العين التي ترى بنور الله، وتستحضر الغيب، كان طوفان الأقصى قدرا من أقدار الله النازلة، وحدثا داخلا في حكمة وتدبير الله الذي لا يتحرك أي شيء في كونه إلا بمشيئته وعلمه وإرادته سبحانه عز وجل…
وطوفان الأقصى بمنطق القلب المطمئن، والعقل المنصت للوحي، وبرؤية من يقرأ التاريخ من أعاليه بإزاء القرآن تصديقا لإخبار المولى عز وجل بالعلو الثاني لبني إسرائيل، ومحطة أخرى من محطات الصراع الأبدي بين الحق وبين الجرثومة الصهيونية الساكنة روح العالم، وإيذانا قريب بوعد الآخرة ليسوء وجه الباطل، وليفتح المسجد الأقصى، و”ليتبروا ما علوا تتبيرا”…
وبمنطق الرجولة المقتحمة المتوكلة على الله في زمن الفسولة والقعود، كان طوفان الأقصى قياما شاهدا بالقسط، وأداء لأمانة الذود عن حياض العرض والأرض، ومدافعة للعدو الصائل الوالغ في دماء المستضعفين، ومناجزة للظالم المجرم السفاك…
وهو بعد، وحتى بمنطق السياسة الأرضية، ومن منظور الحقوق الإنسانية العالمية، نضال مشروع، ومقاومة مشروعة، وحق مكفول للدفاع عن الوطن المستلب ضد الكيان الصهيوني المحتل الغاصب…
وعليه، فالذي يقرأ حدث طوفان الأقصى بمفاهيم التحليل السياسي المادي الأرضي، وبمعايير غلبة العدو القوي المتغطرس، وينظر بعين الانبطاح العارم للتسلط الاستكباري وللظلم الجبري، إنما ينظر من خرم العين العوراء، ويفكر بمنطق العقل العاجز والإرادة المثاقلة إلى أرض الجبن والخور، من دون القدرة على الارتفاع إلى الوعي الإيماني بفعل الله الماضي في حكمه قدرا كونيا، وإلى المبادرة إلى الفعل الجهادي المأمور به شرعيا، والمعمول به إنسانيا وواقعيا في مدافعة الظلم والظالمين، من دون انتظارية عاجزة، أو تواكلية متقاعسة، أو جبن مقيت متوسل بالأعذار المبيحة للقعود المؤثر للسلامة.
طوفان الأقصى ميلاد الأمة
إن أهلكت الآلة الغاشمة للصهاينة المتدثرين بالحماية الاستكبارية الدولية، وبالعجز المخزي لحكام الجبر من بني جلدتنا، وبالتخلف القروني للأمة الوارثة، إن أهلكت الأرض والنفس والعرض، وإن قتَلت وذبَّحت واغتصبت وأفنت وتفننت في أساليب التجريف والتعذيب والهمجية، فإن حدث الأقصى إنما أمات وأحيى -بل الله عز وجل أمات به وأحيى- أمات كثيرا من الخرافات والأساطير التي غدت حقائق لا يأتيها الباطل، وأحيى قلوبا وعقولا وإرادات أنهضت، وستنهض الأمة لتحقيق رسالتها الدعوية إنارة وبشارة، ولبناء مجتمعها الاستخلافي إدارة وعمارة الأرض.
أمات حدث الأقصى هوس مقدسات القيم الكونية، وبهاء الحضارة العالمية، وهوى بأغنيات حقوق الإنسان إلى حضيض السقوط الأخلاقي الهمجي. أمات حدث الأقصى أساطير “الدولة الديموقراطية القوية المتقدمة”، وأرغم أنف العنجهية الصهيونية المتفاخرة.
أمات حدث الأقصى شعارات التضامن العربي الإسلامي الرسمي وكشف سوءة حكام الجبر الراكنين إلى كراسيهم القاعدين الصامتين الخاملين. أمات حدث الأقصى، بل نسف آمال ثمرات التطبيع وخيرات التنمية الموعودة من ورائه، وهد أوهام معجم السلام والتسامح والعيش المشترك مع العدو الصهيوني.
ليكون بهذا السابع من أكتوبر بملحمة طوفان الأقصى الحدث الفاضح الواضح الكاشف المسقط للكثير من الأقنعة المتسلطة على الوعي الإنساني عموما، وعلى الوعي العربي الإسلامي خصوصا.
لكن حدث الأقصى أحيى، برغم الألم الممض الذي فرى النفوس بما اقترفته الأيادي الآثمة المجرمة في حق الشعب الفلسطيني، الأمة بما جدده في قلوبها من الإيمان بوعد الله الصادق بإدارة الدائرة على البغاة المجرمين، وبما بعثه من آمال -كادت بفعل أدوات التغريب والتزييف أن تندثر- التطلع الفاعل لمجابهة الظلم والظالمين، والقيام الشاهد بالقسط أداء للأمانة في نصرة دين الله مهما كانت العقبات.
لقد أحيى حدث الأقصى معالم التنوير للعقل العربي الإسلامي الذي حشي أن لا غلبة للمستضعف، وأن لا معنى لمجابهة القوة العاتية، وأن الاستسلام والخنوع قناعة ورضى، والتطبيع حكمة وفطنة، وأن السلامة والأمن خير من الحرب والفتنة، فأسهم، أو سيسهم بذلك في إعادة تشكيل الوعي المتجاوز للاختراقات المتنوعة للعقل العربي الإسلامي، لينبعث متحررا من الخلافات التاريخية، والانتكاسات القرونية، والهزائم النفسية، فيعي هذا العقل أن الصراع مع الصهاينة وجودي لا حدودي.
لقد أحيى حدث الأقصى الإرادات التي أريد لها أن تنتكس في قعر القعود العاجز، عوض الارتقاء إلى ذرى سماء الفعل الناجز الذي لا تثبطه دعايات القوة التي لا تقهر، ومخططات التدجين وآليات التجريف النفسي والعقلي التي تجعل العدو الغالب قدرا لا منجاة منه، فظهر للعادي والبادي أن موازين القوة تخترقها الهمم، وتصنعها الإرادات، وتبينها السواعد الرجولية غير الكالة ولا الملولة التي تحكم توزين العامل الذاتي لما تتهيأ قلبا وعقلا، وتتجهز علما وعملا لزمن المواجهة والمجابهة.
وبصفة مجملة عامة، إن أمات حدث الأقصى الأساطير المؤسسة للدويلة اللقيطة، وفضح خرافات الخطاب الأخلاقي العالمي، وأبان عوار سوءة الأنظمة الدولية وتابعيها من ظلمة الاستكبار المحلي، وخرق جدار الوعي المستلب للإرادات، فإنه أحي الإيمان في القلوب، وجدد الوعي في العقول، وبعث الحافزية في الإرادة، لغد القومة الواعدة بنصر الله عز وجل لعباده المؤمنين متى آمنوا واتقوا، ثم آمنوا واتقوا، ثم أحسنوا استحكام أسباب النهوض العام، وصدق الله العظيم إذ يقول:
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً. ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا. وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً. ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا. إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا. عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلۡنَا جَهَنَّمَ للكافرين حَصِيرا سورة الإسراء.