صيد ثمين والله، قال تعالى: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(63).
اخترت أن يكون القطار وسيلة لسفري هذا أداء لواجب النصرة واستجابة لنداء الأقصى وفلسطين، أحيانا يسمح لي السفر في القطار أن أخط بعضا مما يخالج نفسي وبعضا مما أشعر به.
استفزني كلام سيدة تناقش سيدة أخرى جمعهما السفر، سمعتها تلقي اللوم على المقاومة، وربما تتهم حماس بالتهور، فأوقفت هذه السيدة في خيالي، وصدحت في وجهها صامتا: لماذا نلوم المقاومة وقد رفعت رأس الأمة الإسلامية والعربية عاليا، لماذا نلومها وقد هزمت الجيش الذي لا يقهر، لماذا نلوم المقاومة وقد أبلت البلاء الحسن، وقد جلبت نصرا ما استطاع العرب قاطبة أن يظفروا به.
وهل وقع اللوم على أهل أحد، وقد خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى المشركين، وكان رأيه صلى الله عليه وسلم أن يقاتل في المدينة، وهل وقع اللوم على الرماة وقد عصوا أمر القائد بأن يبقوا متحصنين بالجبل؟
وهل عاتب الحبيب المصطفى الصحابة الذين رجع بهم رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول وكانوا يشكلون ثلث الجيش؟
وهل سمح الحبيب المصطفى للصحابة أن يلوموا سيف الإسلام خالد وهو يرجع بالجيش فاراًّ من مؤتة؟ وقال قولته المشهورة: “هم الكرار وليس الفرار”.
أيها المتخاذلون، النصر يحتاج لثمن، ومهر العزة باهض، العزة اليوم تكتب بدماء الشهداء، البطولة تصنع في فلسطين، التاريخ يكتب اليوم في جغرافيا اسمها غزة.
التاريخ بدأ في أكتوبر 2023، لا عذر اليوم للمتخاذلين، ولا للمثبطين، ولا للمطبعين، وسيشهد العالم، أننا أمة لا تموت، أمة ستنتصر ولو بعد حين، أمة ستنتصر ولو طال رقادها ولو كثرت فتنها، هي سنة الله في خلقه، وهو وعد نبيه صلى الله عليه وسلم، النصر النصر النصر آت ولو طال انتظاره، النصر آت حتى ولو أصابنا الهوان، حتى ولو أصبحنا كغثاء السيل، حتى ولو غلبنا الشيطان فحبب لنا الدنيا وكرَّهنا في الموت.
انتصر الإسلام حتى ولو استشهد حمزة، انتصر هذا الدين ولو استشهد أنس بن النضر وعمرو بن الجموح، وعبد الله بن جحش، ومصعب بن عمير، وشماس، وحنظلة، وسعد بن الربيع……
انتصر الإسلام حتى وقد وصلوا إلى رسول الله يوم أحد، وقد شج في رأسه وكسرت رباعيته، انتصر الإسلام، ولو استشهد سبعون من القراء، انتصر الإسلام حتى بعد ما قبض الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم والتحق بالرفيق الأعلى، انتصر الإسلام حتى بعد استشهاد عمر، وعثمان وعلي، انتصر الإسلام حتى بعد استشهاد الحسين وسبعين معه من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لا عليكم يا أهالينا في فلسطين، وقد وفيتم، وقمتم بواجب الجهاد نيابة عن الأمة وصنعتم البطولات، لا يضيركم، حتى ولو استشهد منكم مائة ألف، لا يضيركم، ولا يحزنكم ولو دكت البيوت وهدمت الصوامع، أنتم من صنع فاصلا بين الخنوع والذل والهوان وبين العزة والكرامة والنصر.
أبشروا بإحدى الحسنين : النصر أو الشهادة، وقد أحسن عمر المختار قولا: “ننتصر أو نموت”.
تاريخ الأمة اليوم ليس هو تاريخها قبل أكتوبر، وعلى مرأى العالم تتحقق المعجزات، وتنطق الكرامات، وما كنا لنصدق لولا أن بعثنا الله في هذا الزمان، وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين سورة يوسف.
اليوم وقد رأينا الطير الأبابيل ترميهم بحجارة
يا سادتي يا كرام إنه طوفان الأقصى ونهاية الأسطورة
عذرا لا تقولوا لي هذا مجرد حلم، ومجرد أضغاث أحلام، لازلت أفتح عيني وأغمضها، أحاول أن أمسك بلحيتي، أتحسس ذقني، أضع يدي اليمنى على رأسي، أنادي على زوجي، فتجيبني، أسألها هل سمعت ما سمعت؟ وهل ترى ما أرى؟
هرولت على جناح السرعة أبحث عن “الريموت” لأشعل التلفاز وعيني على قناة الجزيرة، وفي نفسي أن أخبار الجزيرة صادقة، قناة تتحرى الحقيقة، أقف كالمذعور، تسمرت واقفا في مكاني على وقع لقطات لاقتحام أماكن استراتيجية للعدو الغاشم، أتأمل في كل مشهد وكل لحظة، وفي كل لقطة، لازال الأمر عندي ضربا من الخيال، لازلت لم أستوعب حقيقة ما جرى.
الصدمة كانت بالنسبة لي قوية، تشبه الضربة القوية التي تلقاها الكيان الغاشم، أراهم يُجَرُّون كالخراف المذبوحة، أرى وكأن الأرض زلزلت زلزالها، وكأن الطامة أصابتهم، وكأني بالطير الأبابيل ترميهم بالنار، لا تفلتهم، وكأني بسماء تل أبيب أصابها السواد، لهيب من هنا ونار من هناك، تكبير تحت الأرض، وتكبير ينزل من السماء.
يقفون مذعورين، ولم تُغْنِ عنهم قوتهم، ولا منعتهم قبتهم الحديدية، ولا نفعتهم أجهزتهم الاستخبارية، وقد أصبحت كالعهن المنفوش، ماذا أصاب الجيش الذي لا يقهر؟ لم يستوعبوا الصدمة بعد، ربما هم أنفسهم في حيرة، ربما يكون مجرد فيلم من إخراج حماس، والبطل فيه القائد الميداني محمد الضيف.
النار اشتعلت، نار ذات لهب، هروب جماعي لآلاف المستوطنين، الكاميرات ذات الجودة العالية تترصدهم، يهربون كالفئران، يحسبون كل صيحة عليهم، يتمنون لو تشق الأرض فتبتلعهم.
ومشاهد جميلة لأول مرة تكتحل عيني بمشاهدتها، عشرات أو قل المئات وربما الآلاف من الأسرى، وقد أكثر فيهم المجاهدون الأبطال الحز، أراهم ببذلاتهم العسكرية وبنياشينهم، وقد ابتلت سراويلهم خوفا من أبطال كتائب القسام، قلت: أين هي مقولة الجيش الذي لا يقهر؟ بدأت اللحظة أستفيق من هول الصدمة وقد تغيرت دقات قلبي، وأصابتني قشعريرة، أكاد أرقص فرحا بهذا النصر، بدأت بالتحميد، وأثني وأزيد من الشكر، أن أطال الله في عمري حتى عشت هذه اللحظات التي لم تكن في الحسبان، لحظات ومشاهد كنت أراها في بعض أحلامي، وربما كان بعض من الصالحين من إخواني يحكون لي بعضا من رؤاهم.
وبعض الكرامات التي قرأتها عن المجاهدين.
أفرح طربا، أصيح بأعلى صوتي الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، سرح بي الخيال وتذكرت نصر غزوة بدر، وتذكرت المدد الرباني ونزول الملائكة مردفين، يقاتلون جنبا إلى جنب مع الصحابة، تظهر أمامي بعض صور الأسرى، فيخيل لي كأنهم مضروبون بالنار، وكأن آثار الحروق في ناصيتهم وعلى أعناقهم، وكأن الملائكة التي حاربت مع الصحابة في غزوة بدر نزلت لتصنع هذا النصر المؤزر.
وكأني أسمع، صوتَ الفارسِ فوقَه يقولُ: أقدِمْ حَيْزُومُ إذ نظَر إلى المشركِ أمامَه خرَّ مستلقيًا فنظَر إليه فإذ هو قد خُطِم أنفُه وشُقَّ وجهُه كضربةِ سَوطٍ فاخضَرَّ ذاك أجمعُ فجاء الأنصاريُّ فحدَّث ذلك رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (صدَقْتَ، ذلك مِن مَدَدِ السَّماءِ الثَّالثةِ) فقتَلوا يومَئذٍ سبعينَ، رواه ابن حبان.
هذا الطوفان ضرب بقوة قلب العدو، أربك حساباته، تعطلت قوته، وسقطت هيبته، عمليات ولا في الأحلام، كثر العويل، وعلا صوت صافرات الإنذار.
عمَّ الحزن كل بيوتات الكيان الغاشم، وبدأت أستوعب بعض آي الذكر الحكيم، أسترجع قوله تعالى: قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ سورة أل عمران 12.
مشهد آخر، شغلت به ذاكرتي، دبابة تقع فريسة في أيدي المجاهدين، وكأنها فأرة صغيرة تخرج من المجاري، فيضربها أحدنا حتى تفقد السيطرة.
يخرجون ضابطا من هذه الدبابة كما يخرج أحدنا هدبة التوب من إناء كان فيه بعض من الزيت، فيلقون به أسيرا، يرجو وهو بين الحياة والموت، لو طال به العمر ليحكي للأجيال القادمة من الكيان الغاصب هول وشر ما رأى وما عاش وما سمع.
عيني على الشريط الأحمر أسفل الشاشة، وأرقام القتلى والأسرى في تزايد.