1- وظائف المثقف بين الواقع والمأمول
لن أخوض في التحديدات المتعددة للمثقف، تلك التي تأتي تبعا للتعريفات الكثيرة التي تعطي لمفهوم الثقافة ذاته، وحسبي أن أشير إلى أن هناك خلافات تضيق أو تتسع، تبعا للموقع الذي يُعطى له، ولحجم الوظائف المنتظرة منه.
ولذلك فإن وظائفه تتحدد تبعا لتموضعه داخل النسق الاجتماعي القائم أو المُتصَوَّر، ورغم ذلك يبقى دور المثقف هو دور الفاعل القيمي الأساسي في المجتمع، بوصفه منتجا للمعرفة وللقيم، ومفتحصا للبُنى المختلفة، ومسائلا للمسار، إنه رائد القوم ومستطلع أفقهم، ويمتلك نوعا ما مقوما من مقومات القيادة؛ سلطة المعرفة وسلطة الرؤية، إنه ذلك المتمكن من تحليل الوضعيات والنفاذ إلى الاختلالات، إنه طارح الأسئلة المحرجة.
إن هذا التميّز، يعطيه وضعية بينية متأرجحة بالضرورة، فمرة هو سابق رائد يفكر من خارج الصندوق، ويرى أبعد مما هو مكرّس ومسموح به ومتاح للعموم، مستعلٍ عن الواقع والحاضر العيني، والأفق التقليدي المرسوم، ومرة هو لصيق الحركة العامة للمجتمع، بوصفه جزءا من بنيتها وصوتا لها في الآن نفسه.
وفي الحقيقة، لا ينبغي للمثقف التنصّل من إحدى هاتين الوظيفتين، فالأولى تقتضي تعاليا وارتقاء عن العموم، وحسّا رؤيويا، يتسلح بالنقد وينظر إلى المسار من خارج، ويقارن الأنساق، ويستطلع المسالك، ويتحسس المطبات، ويقدم الخطاطات والمقترحات. في حين تتطلب الوظيفة الثانية، تحسيس الناس أنك تنتمي إليهم حقا وصدقا لا مجاملة ونفاقا، يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله عن الرائد الراغب في التغيير: “يجب أن نُشعِرَ النّاسَ أننا منهم”. وهو شرط ضروري، بالقدر الذي يحوز المثقف به توكيلا مستحقّا، يُستأمَن على القيادة عن جدارة؛ مشاركة ومحبة، فأما المشاركة فتعني أن المثقف ينبغي ألا يغض الطرف بشكل مطلق عن الهموم اليومية والإشكالات الصغرى التي تؤرق المواطنين، وأما المحبة فتعني صدق الولاء الاجتماعي، وهنا نطرح مثال مؤمن آل ياسين، فقد كان رائدا وداعية ومنوّرا، ونصح قومه بصدق ومحبة وصبر على إذايتهم له، وظل ذلك الحب والولاء قائما حتى بعد وفاته: “قال يا ليتَ قومي يعلمون بما غفر لي ربّي وجعلني من المُكرَمين”.
غير أن ذلك القرب وتلك المشاركة، وتلكم المحبة، لا ينبغي أن تكبّل المثقف عن النصح الصادق، أو تدخِلَهُ أُتونَ النفاق الاجتماعي والمحاباة ودغدغة مشاعر الجماهير بغية هوى شعبوي عابر، وتلك المشاركة لا ينبغي أن تستغرق جهد المثقف وتضع له اشتراطات تعيق حرية تفكيره وطاقته الاستطلاعية المستعلية، فتسقطه فيما يسميه الإمام عبد السلام ياسين “السقوط في قبضة الجماهير”، فإنما هي جسر لاختبار النظرية، ووسيلة فعالة للإنصات الحقيقي، وربط التفكير بحركة الواقع، ومعرفة جيدة بحجم العقبات النفسية والثقافية والاجتماعية والسياسية للتغيير.
إن المشاركة الميدانية ومخالطة الناس وغشيان الواقع هو الدواء الناجع لجنوح التفكير غير المقيد ببعد إجرائي فعال، واختبار للكثير من الأفكار والأنساق التي يخالطها الوهم أو تبالغ في القفز عن اشتراطات الواقع ومتطلبات التغيير، وحركة الإنسان في مساراته المختلفة، كما أن الممارسة، وإعطاء القدوة تعدّ بحقّ المادّة السحرية التي تؤثر في نشر الأفكار، وتبيان جدواها وفعاليتها، وتعطيها تلك السطوة التي لا تُقاوم، يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: “إن كلماتنا ستبقى عرائس ميتة من الشموع، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح، وكتبت لها الحياة”.
غير أن هذه الصورة يبدو أنها تلائم المثقف في صورته النموذجية المرتجاة، وتبقى مستويات أخرى من المثقفين، تتحدد وظيفتها تبعا لمستوى التموضع الذي بلغته تحصيلا وإنتاجا للمعرفة، ومستوى التأثير والتنوير، ودرجة المتانة والعمق؛ “فأما الزّبدُ فيذهب جُفاءً، وأما ما ينفع الناس فيمكثُ في الأرض”.
وما دام أنه ليست هناك طبقة واحدة من المثقفين، بل توجد مستويات عديدة، بدءا بـ”المثقف الرّائد” الذي حقق قدرا كبيرا من التميز، وراكم من المعرفة والخبرة والنظر ما أهله ليؤسس نسقا جديدا ويطرح خطاطات معرفية جديدة، تعيد النظر في العديد من الأنساق، أو تقترح منعطفات وترسم خرائط معرفية واستراتيجية جديدة، مرورا بـ”المثقف الوسيط”، الذي يمتلك قدرات تفسيرية وإجرائية تجعله قادرا على اقتراح صيغ للفهم ومخططات للتطبيق، وترجمة المقولات الكبرى والأفكار المجرّدة وتقريبها من الأفهام ومن التطبيقات العملية، وصولا إلى “المثقف المشارك” الذي يمتلك بعض مؤهلات النظر والتفكير، لكنه ليس أكثر من مجرّد نموذج معتمد جمع بين الفهم والممارسة، فتقدم بوصفه قدوة عملية قريبة من الناس ومن العمل اليومي.
فليس المطلوب أن يسلك كل مثقف نهج “التعالي” ويثبت لنفسه الحق في “اتخاذ المسافة”، ما دامت طبقات المثقفين تختلف في مراتب التفكير ومستويات النظر، فلا توجد صيغة واحدة نمطية تتحدد بموجبها وضعية المثقف ووظائفه بصيغة نهائية وقارة وشاملة للجميع.
وبناءً على هذا الأساس، فليس لكل مثقف أن يغرق في ممارسة التأمّل والتفكير المجرّد، ويتعفّف عن الانغماس الكلّي في الواقع ومقتضياته. فإنّ من مصائبنا الكبرى أن يتعالى العدد الأكبر ممن يعتبرون أنفسهم مثقفين، عن الواقع وعن النقاش العمومي، ويغوصون في اهتماماتهم التخصصية الأكاديمية، أو انشغالاتهم الفكرية الجزئية الدقيقة، ويتركوا الواقع وقضاياه الحارقة ومشاكله اليومية عرضة للخبط العشوائي من طرف أنصاف وأرباع متعلمين، ومجترّين مدرسيّين، ومرتَمِين في المجال بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير.
لكن بقدر التخوف من السقوط في قبضة الجماهير والتورط في شباك الشعبوية، يجب التحوّط من إغراء السلطة، وامتلاك القدرة على نوع من الاستقلالية الفكرية، التي تمكن المثقف من الحفاظ على نزاهته الفكرية وموضوعيته، فالمعادلة برأسين، بقدر الحذر من المجتمع يجب الحذر من السلطة، وإن كان تاريخ مثقفنا المدموغ بالصبغة اليسارية طغى فيه الحديث عن السلطة، وخفت عن المجتمع وأطره وبنياته ومؤسساته، فانقلبت المعادلة رأسا على عقب، تصالح عدد من المثقفين مع السلطة وارتموا في أحضانها، وتوجهت مدافع انتقاداتهم صوب البُنى الثقافية والهوياتية للمجتمع فقط، في حين لا يجد آخرون غضاضة في إلصاق كل عيب وكل اختلال وكل عطب بالسلطة السياسية ويمجدون الغوغائية الشعبية باسم إرادة الجماهير، أو ما يصطلح عليه شعبويا في الإعلام “الجمهور عايز كدة”.
يقول نعوم تشومسكي معبرا عن هذه المعادلة وضرورة توازن طرفيها: “المثقف هو من حمل الحقيقة في وجه القوة”؛ سواء قوة السلطة أو قوة المجتمع، فالمثقف الحق لا ينبغي أن يصبح قطا أليفا في حجر السلطة يدخل تحت إبطها ويصبح في متناولها بشكل تام، ولا ينبغي كذلك أن يسقط في قبضة الجماهير. إنها مسافة لا تقاس بحجم العزلة أو حجم مناهضة قيم المجتمع ونقضها، إنها مسافة نقدية، تنتصر للحقيقة، وتدور معها حيث دارت، ووظيفة للتقريب، ودراسة إمكانات التحقق والالتقاء، وحرص على اتجاه البوصلة، وتقويم للاعوجاج، وتفكير من خارج الصندوق؛ صندوق المصلحة والولاء الأعمى، وصندوق الانغلاق والدوغمائية، وصندوق الثبات السلبي الذي يرفض كل إعادة تفكير ودراسة للجدوى وتقليب زوايا النظر، إنها مسافة معنوية، ولها بعض التجليات الإجرائية الضرورية.
2- تحديات ورهانات
يمكننا جرد أبرز التحديات التي تواجه المثقف المغربي، ونظرائه في الدول العربية والإسلامية كذلك، من خلال التفكير في مختلف العوائق التي تمنع فعاليته، أو تعيق أداءه ابتداءً، أو حتى تشرد بفعله بعيدا عن المرتجى المطلوب. ومن ذلك ما يأتي:
– عدم الارتهان لعُقَد الماضي وترسُّباته المتكلسة وتجاوز التصنيفات والصنافات التقليدية الجاهزة.
– الانفكاك عن الاصطفاف الإيديولوجي الوجداني المناهض للانفتاح وقراءة الآخر، وتقبل النقد والإفادة من المختلف.
– الخروج من جب الأستاذية وادّعاء امتلاك الحقيقة، والجدارة بالفهم، وامتلاك قدر كبير من التواضع للتعلم والتتلمذ وإعادة النظر، تنسيبا للاجتهادات، وإعمالا للافتحاص المعرفي والمنطقي والواقعي الدوري للأنساق والتوجُّهات.
– التحلي بالشجاعة وتحمل المسؤولية التاريخية في إثارة الأسئلة الحقيقية واقتراح السبل الناجعة.
– بناء جسور إعادة تشكيل اللحمة الوطنية، وتمتين البناء القومي، والكف عن تبخيس الذات والاستيلاب في الآخر غربا وشرقا.
– الكف عن التلقُّف الفكري الجاهز لكل ما يأتي من الغرب، وإعمال ملكة النقد، والتنسيب، وتفعيل مراعاة مرتكزات الهوية في كل عملية إفادة أو انفتاح.
– اجتراح السبل الكفيلة بتجاوز أعطاب النخبوية، والتفكير من خلال ردود الأفعال، والارتهان لمجريات التخصص الانعزالية أحيانا.
– مواكبة العصر الرقمي ودخول أبوابه والكف عن النغمة التمجيدية للماضي والحنين إلى نوع من “الأصولية الجمالية”، إذ متى ما تحدثت مع من تجاوز الخمسين أو الستين في ظل خيبته الشخصية، حدثك عن “الزمن الجميل” الذي مضى وساد بعده الظلام، وانتهت الحياة.
– الرهان على الشباب، وحسن الإنصات إليهم.
– دعم العبور المجالي في المعرفة، ومقاربة المعارف بنظرة تكاملية التقائية جامعة، مع دعم التخصص واحترامه.
– إذا كان ليس من وظيفة المثقف المعارضة السياسية المباشرة، فلا أقل من أن ينخرط في القضايا الجدية، والمصيرية، والاستراتيجية للوطن وللأمة، ويكف عن الاختباء وراء شوارد تخصصاته الأكاديمية.
– إعادة النظر في مفهوم المثقف ذاته، عبر تجاوز “الكليشيهات” والتمثلات الجاهزة عن أن المثقف هو الأديب أو الفنان أو الشاعر، رغم حجم تأثير البعض، فالمثقف هو من يمتلك القدرة على فهم ما يحدث، عبر النظر من زاوية أعلى، وهو من يستطيع تجاوز الأجوبة السطحية والجاهزة والتاريخية التي يقدمها المجال العام، في شكل وعي مشترك، يمتلكه كل أحد.
– إعادة تقدير مرتكزات الهوية الوطنية والقومية، والبناء عليها، لا تنكرا لها ومصادمة دائمة، بل إفادة منها وتفجيرا إيجابيا لطاقتها، وارتكازا على أسسها، واستنادا إلى روحها الإحيائية الخلاقة.
– امتلاك القدرة على تغيير الفكر والفهم من أجل تغيير السلوك، ذلك أن تغيير فهمنا للعالم وصيغ التعاطي معه، هو الكفيل بتغيير واقعنا بوصفه تجليا لفهمنا ونتاجا لسلوكنا السابق معه.
هذه بعض التحديات التي تعترض المثقف المغربي المعاصر، وهي تحديات تصبح رهانات يجب الفوز بها، إن تحولت مقترحاتُ تجاوزِها إلى أهدافٍ واضحة.
ولذلك فهي تشكل أيضا قضايا للنظر ومجالا لاختبار الفعالية والقدرة على التجاوز.