المحبة

Cover Image for المحبة
نشر بتاريخ

إن الحديث عن المحبة مفتاح لكل أبواب فقه السلوك. إذ المحبة فقه قلبي وحركة قلبية، وشوق إلى الله عز وجل ينبئ عما في ضمير المقبل عليه تعالى من تطلعات ليحظى عند الله عز وجل بالزلفى. تطلعات هي في الحقيقة استجابة وتلبية للنداء الإلهي الذي تتضمنه الآية القرآنية: قُل اِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران، 31]. فالمطلب الأسمى للعبد المنيب المقبل على ربه الواثق بما عنده سبحانه أن يغفر ذنبه وتقبل توبته ويقرب إلى ربه في منازل المحبوبين المرحومين.

وليست المحبة عاطفة محلقة في أجواء الصفاء حين يناجي المومن ربه خاشعا خاضعا. بل للمحبة شروط ملموسة محسوسة محسوبة، رتبها الشرع كما يفصل ذلك المحاسبي رحمه الله حين قال: “المحبة في ثلاثة أشياء – لا يسمى المحب محبا لله عز وجل إلا بها – محبة المؤمنين في الله عز وجل، وعلامة ذلك: كف الأذى عنهم وجلب المنفعة إليهم على سبيل الشريعة المحمدية. ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم لله عز وجل، وعلامة ذلك: اتباع سنته، قال الله جل ذكره: قُل اِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ [آل عمران، من الآية 31]. ومحبة الله عز وجل في إيثار الطاعة على المعصية، ويقال: ذكر النعمة يورث المحبة” [رسالة المسترشدين، ص: 242-244].

وقد تحصل فضيلة حب الله تعالى على مراحل؛ يتقوى إيمان العبد فيتقدم في مراتب سلوكه مسافة بعد مسافة. فيمكن أن ينظر إلى مسار السالكين ما بين مبتدئ ومتوسط ومنته. فالمبتدئ ينظر إلى نعم الله عز وجل فيشكره عليها، ويحبه كفاء لنعمه، وهو أمر مرغوب شرعا مندوب إليه في قوله صلى الله عليه وسلم: “أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني لحب الله وأحبوا أهل بيتي لحبي” [المستدرك على الصحيحين، من مناقب أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم: 4716، 3/162]. وهكذا تتوالد المحبة وتتنزل من حب المنعم سبحانه إلى حب نبيه صلى الله عليه وسلم إلى محبة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يفصل المحاسبي رحمه الله كيف ترتقي آيات المحبة في قلب العبد الشكور فيقول: “للمحبة أول ووسط وآخر؛ فأولها محبة الله بالأيادي والمنن، قال ابن مسعود رضي الله عنه: جبلت القلوب على حب من أحسن إليها. ومن أحسن من الله عهدا ورحمة ورأفة وتجاوزا إلا الله الحليم الكريم. ووسطها: الامتثال لأوامره واجتناب نواهيه، بحيث لا يفقدك فيما أمرك به ولا يجدك فيما نهاك عنه… وأعلاها: المحبة لوجوب حق الله عز وجل، قال علي بن الفضيل رحمة الله عليه: إنما يحب الله عز وجل لأنه هو الله” [رسالة المسترشدين، ص: 245].

ونجد عند الأستاذ القشيري رحمه الله لمحات في سرائر المحبين ودواخل قلوبهم، فيقول: “المحبة حالة شريفة شهد الحق سبحانه بها للعبد وأخبر عن محبته للعبد، فالحق سبحانه يوصف بأنه يحب العبد والعبد يوصف بأنه يحب الحق سبحانه” [الرسالة القشيرية، ص: 318].

هذه المحبة هي “عقد الإيمان الذي لا يدخل فيه الداخل إلا بها، ولا فلاح للعبد ولا نجاة له من عذاب الله إلا بها (…) ولهذا كانت أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداءه، وأهل غضبه ونقمته، فهذه المسألة هي قطب رحى الدين الذي عليه مدارُه. وإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق. وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله وأحواله وأقواله. ولا حول ولا قوة إلا بالله” [طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم، تحقيق: عمر بن محمود أبو عمر، ط:2، دار ابن القيم الدمام، 1414ﻫ، 1994م، 1/472-473].

فمن زعم أنه يحب الله عز وجل ورسوله والمومنين دون أن يدلي على ذلك بحجته خوطب بأسلوب التنبيه والتقريع، في مقالة الجيلاني رحمه الله: “قد ادعيت محبة الله عز وجل، أما علمت أن لها شرائط؟ من شرائط محبته موافقته فيك وفي غيرك، ومن شرائطها أن لا تسكن إلى غيره وأن تستأنس به ولا تستوحش معه، إذا سكن حب الله قلب عبد أنس به وأبغض كل ما يشغل عنه” [الفتح الرباني، ص: 32].

وهذه في الجملة شرائط تنطبق على المصطفين الأخيار من عباد الله تعالى، الذين يفصل الحديث عنهم الإمام الرفاعي رحمه الله حيث قال: “أيْ سادة، إن لله تعالى عبادا اصطفاهم لمعرفته وخصهم بمحبته واختارهم لصحبته واجتباهم لمؤانسته وقربهم لمناجاته وحرضهم على ذكره وأنطقهم بحكمته وأذاقهم من كأس محبته وفضلهم على جميع خلقه، حتى لم يريدوا به بدلا ولا سواه كفيلا ولا دونه ناصرا ومعينا ووكيلا” [حالة أهل الحقيقة مع الله، ص: 73].

وهذا القدر من محبة الله تعالى واجب على كل مسلم فرضا يتحدث عنه ابن عطاء الله رحمه الله فيقول: “محبة الله فرض على كل مخلوق، لأن النفس الإنسانية إما أن تحب محسنا والمحسن الأوحد هو الله عز وجل، وإما أن تحب عظيما وليس شيء أعظم من الله سبحانه، وإما أن تحب جميلا أسرها جماله والجميل الأوحد في هذا الكون هو الله سبحانه” [تاج العروس الحاوي لتهذيب النفوس، ص: 299].