من البذل إنفاق الوقت والجهد والمال في طلب العلم بما هو فريضة على كل مسلم ومسلمة، وبما هو واجب تقتضيه مطالب التبليغ والدعوة واكتساب الحكمة، إذ العلم منبع الحكمة، ومرجع الاستدلال، وإمام العمل، وطريق الصواب والفلاح في الدنيا والآخرة.
وقد دعانا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إلى وجوب تحصيل العلم، ففي القرآن يقول الله تعالى: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [1] وهو قرين الإيمان ومنطلق الرفعة كما في قوله تعالى: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات[2] وفي الحديث: “طلب العلم فريضة على كل مسلم “[3] وكان الصحابة متيقنين من كون العلم سلّما للهداية والسمو، ومرقى للرشاد والعلو.
كما عمل التابعون وتابعوهم على إنزال العلم المكانة اللائقة، واحترسوا من الجهل وتبعاته على الفرد والأمة، فتحملوا لذلك الأهوال وسلكوا الصعاب، وقصدوا العلماء باختراق المشاق عبر الآفاق، لأنه سبيل الخشية والتأمل والتقرب من الله تعالى: إنما يخشى الله َ من عباده العلماءُ [4]
وقد أدركت الأمم المتحضرة أهمية العلم وخطورته، فأولته بالغ الاهتمام وواسع والجهد والمال، وكثيرا من التخطيط والتوجيه والتقدير، فأنتج ذلك لديها انتقالات نوعية في كل مجالات الحياة وميادينها، وصار لها بين العالم مكان وحظوة ورمزية. متأثرة بما ناله المسلمون الأولون عبر تاريخهم العلمي المجيد الحافل بالعطاء والسبق في طلب العلم وتعليمه بما تشهد عليه جامعات الأزهر والزيتونة والقرويين، وبما توثقه مرابط العلم في غرناطة وقرطبة والجامع الأموي وغيرها من المدارس والمعاهد والجامعات في شرق أرض الإسلام وغربها.
كما أولى الإمام المجدد عبد السلام ياسين – رحمه الله – للعلم وطلبه والتفاني في تحصيله العناية الخاصة إدراكا منه – رحمه الله – لأهميته وخطورته وضرورته في عالم لا يهتم بشيء اهتمامه بالعلم وأهله. إذ جعل له الخصلة الخامسة من الخصال العشر وهي الخصلة التي ترشد الناس إلى العنصر المؤثر في بناء العامل الذاتي فكرا وفهما وحسن تعامل مع القضايا والمواضيع والاهتمامات.
وإذا ما أرادت أمة ما بكل عزم وحزم التقدم والخروج من التخلف والفقر والضعف، لزمها التمسك بالعلم فعما وتعلما وتعليما، تأصيلا وتثبيتا وتطويرا، استنادا إلى مقاصد الشرع ومطالبه في ذلك، إذ لا حياة لأمة بدونه ولا قدم لها راسخة بين الأمم والجهل والأمية يظلمان عليها. ومن هنا نسلك الطريق لامتلاك علم الحق وهو: شرع به نكون مؤمنين حين نحقق مقاصده. ونواميس الله في الكون قدر على مقتضاه يسوس الله عز وجل مملكته، فبإتقان علوم تلك النواميس نكون قد أعددنا القوة التي أمرنا بإعدادها، فاستحققنا الخلافة في الأرض) [5] ذلك أن: كل العلوم الكونية الأرضية إنما تنفع إن استعملت لإبطال الباطل وإحقاق الحق. كما أن علم الحق يبقى في عين غيرنا نظريات وأساطير إن لم نتسلح بالعلوم الأرضية وحكمة الأمم كي نجسد ما نؤمن به من الحق على أرض الواقع )[6]
1 – العلم علمان
يميز الإمام – رحمه الله – بين مستويين من العلم هما: علم بالله، وبغيب الله، وبرسل الله، وبكتب الله، وملائكة الله، وقدر الله، ومصير الإنسان في الدار الآخرة إلى الله. وعلم آخر عن كون الله، وخلق الله، وما أودعه الله في أرضه وسمائه من أسرار، وما رتب سبحانه من أسباب، وما سخر سبحانه للإنسان تسخيرا طبيعيا، وما جعل لتسخيره أسبابا على الإنسان أن يُرادف التجارب، ويجمع المعارف، ويَخترع المناهج، ويصطنع الآلات لتوفيرها )[7]
ويطلب – رحمه الله – من المسلمة أن تأخذ نفسها بامتلاك العلوم المشرّفة المحتكرة عند الآخر وأن تبذل الجهد والوسع في تحصيلها، لكي تنال الشرف والحظوة بين بنات جنسها وتتمكن من مزاحمة غيرها فيها، استشرافا لغد باسم مليء بالإنجازات تتناسب مع حجم التحديات التي تنتظر الأمة الإسلامية في سيرها نحو الدولة القرآنية العادلة المحسنة: وهي العلوم والمعارف ضرورية لا مسكن للأمة على وجه الأرض ولا مستقبل لها إن لم تجاهد الأمة – وفيها عبْقريات المومنات – لاكتسابها وترويضها والتسلح بها. عريانة أمة ليس لها قدم تزاحم الأقدام في هذه المَوَاطن، جوعانة، عَزْلاءُ، نَكِرةٌ، بلهاء، غثاء) [8]
وتحصيل هذه المعارف مرتبط بالعلم الأول وهو العلم بالله وبالغيب ومصدره الوحي: تَنفَع الأمةَ في الدنيا علومُ الكون لأنها قوة، وجهاد المومنات لاكتساب هذه العلوم مساهمة في الجهاد. لكن السعيَ باطِلٌ ضالٌّ إن انقطعتْ منقطعة عن الوحي، وكانت قِسمتها من العلم الشريف حقا، ومن الإيمان بالله واليوم الآخر، صفرا. مهما كان تحصيلها من علوم الكون ومهارات الدنيا، وصناعات التقنية، كبيرة، فنفع ذلك لها في الدنيا إن ترقت في السلم الاجتماعي وكسبت مالا وشهرة لا يزن عند الله شيئا) [9]
وما تحتاجه المسلمة في دعوتها واقتحامها وجهادها هو: الفقه الكلي الذي يشمل كل العبادات الفردية والمعاملات الجزئية، في نسق واحد يؤدي وظيفة إحياء الأمة وإعادتها إلى حضن الشريعة وصراط الله) [10] لأن العلم فهم العقل الخاضع لجلال الله، ونور في قلب من أيده بالإرادة الجهادية) [11]
وهناك عند الإ
مام – رحمه الله – تقسيم للعلم بين العلوم العينية وعلوم الكفاية: فمن العلوم العينية كتاب الله عز وجل تلاوة حفظا وفهما، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم دراسة واتباعا، وإتقان لغة القرآن لمحاربة الهيمنة الثقافية الأجنبية واحتلالها عقول أبنائنا وميادين حياتنا… ومن علوم الكفاية اللغات الأجنبية، والعلوم التجريبية التقنية، وعلوم التنظيم والإدارة، وعلوم السياسة والاجتماع. ونجرد كل هذه العلوم مما علق بها من مباشرة الجاهليين لها. وما تنطوي عليه مما يسمونه بعلوم الإنسان، والإديولوجيات من فلسفة كافرة، وتصور مادي نطلع عليهما لندحضهما في نقاشنا للمغرورين المضللين من أبنائنا. وفي مرحلة تابعة نطوع كل هذه العلوم ونحذقها، لتنهضم في جهازنا العلمي، وتنصهر في بوتقتنا، وتخدم أهدافنا) [12] وفق: المنهاج العلمي في النقد، والملاحظة، والتحليل، والتركيب، والاختبار…) [13] وهذا لا يتأتى إلا بوجود المنهاج النبوي الذي يجمع لنا بين نور القلب الذي يصدق بالحق ويخضع له، وبين فهم العقل المنضبط بالعلمية، والتجربة، والدقة في الحكم. بهذا العقل فقط يمكن أن نبني، وبذلك القلب فقط يكون البناء إسلاميا على هدى من الله) [14]
2 – مميزات العلم
يربط الإمام المجدد – رحمه الله – طلب العلم للمسلمات بالنفع ويحدد له مميزات، فهن ينهلن من علم الآخرة في جلساتهن، ويشجع بعضهن بعضا على اقتناء الكتب، ومعاشرة الكتاب. فإن هذه الثقافة الإسلامية العامة التي تنشر في المجلات الإسلامية إن كانت مهمة في تنوير عامة المسلمات والمسلمين، لا تكفي لتفقيه المومنات بدينهن) [15]
وهو عندهن علم خطوة لا علم خطبة. عِلما يشرق في القلوب إيمانا وتصديقا، وفي العقول تدبيرا وتطبيقا. علما جامعا لمصلحة جامعة: الأمة ممزقة الأوصال كيف نجمعها )[16] ويؤكد على أنه علم خطوة لا علم خطبة. علم يقربنا إلى الله تعريفا بالطريق. يكون العلم خطوة إن تلا التعريفَ تصديق، وتلا التصديقَ عمل وجهاد) [17] وما دام العلم إمام العمل فإن أول خطوة أن نصحح المفاهيم ونطهرها مما علِق بها من الفهم المادي الدنيوي. ضلَلْنا وخسِرْنا إن اتبعنا الفهم المادي الدنيوي، أو سحبتْنا إلى التمثّل به ثم تَمثّلِه المحاولات التي تقارن وتحاور من مبدإ: القرآن سبق إلى هذا بأربعة عشر قرنا. العلم، الحكمة، الفقه، العقل، الرشد، التفكّر، التدبر، النظر. هذه مفاهيم قرآنية نبوية نفرغها من محتواها الإيماني ولبها الإحساني إن نحن قرأناها على ضوء القاموس الفكري العام )[18]
وبذلك تصل المسلمة وقد جاهدت جهاد العلم إلى الكمال العلمي الحق وهو: “من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين” رواه الترمذي عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. الكمال العلمي في طلب علم الوحي ليكون إماما وسيدا ومرشدا لعلوم الكون، وليكون السعي إلى تحصيله جهادا، ولتكون المشقة والصبر على امتلاكه وسيلة وطريقا إلى الجنة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة” رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الكمال العلمي تعلم القرآن وتعليمه وتفريع كل علم سواه عنه من علوم الدين والدنيا. “خيركم من تعلم القرآن وعلمه” حديث نبوي رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن مولانا عثمان بن عفان رضي الله عنه.
خير وكمال حرَص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إنالة النساء المومنات حظهن منه. جئنه يوما فقلن: “غلَبَنا عليك الرجال! فاجعل لنا يوما من نفسك! فوعدهن يوما لَقِيهنَّ فيه فوعظهن وأمرهن” الحديث رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
يمنع شيطان الكِبْر ووسواس الخجل من طلب العلم وتلقيه. ثلاثة نفر حضروا مجلسا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقدم أحدهم، وتأخر الآخر، وتردد الثالث. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أما أحدهم فأوَى إلى الله عز وجل فآواه الله، وأما الآخر فاستحيى فاستحيى الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه” أخرجه الشيخان والترمذي والموطأ عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه [19]
ويلخص الإمام – رحمه الله – خصلة العلم وشعبها في قوله: الخصلة الخامسة: العلم: لابد من علم سابق، هو ذاك العلم المنصب في وعي المسلم بالمنبت أو بالتوبة من أسرته ورفقته وصحبته. لكن التعليم المنهاجي الذي يكون واسطة عقد المنهاج والشرط الأساسي لنجاح العمل هو العلم الذي يعيد في وعي المؤمن المعاير إلى وضعها الإسلامي، ويعيد في ثقافة الأمة كل معرفة كونية إلى مفصلها ومتصلها بعلم الحق، علم الوحي. )شعب الخصلة: 41 طلب العلم وبذله.42 التعليم والتعلم بآدابهما الإسلامية. 43 تعلم القرآن وتعليمه. 44 الحديث الشريف واتباع السنة. 45 التعليم بالخطابة. 46 التعليم بالمواعظ والقصص) [20]
[1] سورة الزمر: 9.
[2] سورة المجادلة: 11.
[3] صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب .
[4] سورة فاطر: 28.
[5] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 215.
[6] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 214.
[7] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات، 2/ 66.
[8] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات، 2/ 66.
[9] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات، 2/ 67.
[10] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 217.
[11] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 216.
[12] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 218.
[13] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 218.
[14] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 218- 219.
[15] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات، 2/ 67.
[16] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات، 2/ 67.
[17] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات، 2/ 67.
[18] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات، 2/ 67 – 68.
[19] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات، 2/ 70.
[20] ياسين عبد السلام، مقدمات في المنهاج، ص: 81.