حتما، إنه لو شاء الله تعالى لكان حدث الهجرة النبوية كمعجزة الإسراء والمعراج: براق وملك وسبح في ملكوت السماوات وسياحة في الأرض إلى بيت المقدس وعودة قبل طلوع النهار، لكن شاءت حكمته سبحانه أن تكون الهجرة مجهودات وتضحيات وترتيبات، كل ذلك لتتعلم الأمة في كل فقرات تاريخها أن بناء الدولة والأمة الإسلاميتين يحتاج إلى إعداد، فهي مسيرة حقيقية وقودها إرادة الإنسان وتضحياته وبذله وخبرته.
سنتعرض هاهنا لبعض أوجه الإعداد التي تبناها الشخص الكريم صلى الله عليه وسلم خلال الهجرة وفي طريقه إلى بناء دولة الإسلام بطيبة الطيبة.
القيادة الخبيرة المؤيدة المحبوبة
كانت كل اللحظات التي عاشها صلى الله عليه وسلم بمكة لحظات تعليم وتثبيت للإيمان في القلوب، وتحريض على الثقة فيما عند الله من نعيم في الآخرة ونصر في الدنيا.
بمكة خالط الناس في أسواقهم ومنتدياتهم ومحافلهم، وبمكة تلقى الوحي فصدع به وأوذي من أجله، وبمكة ألف قلوب الصحابة على بعضها وصهر الإرادات وصقل المروءات، وبمكة أثبت أن منظومة الحياة المبنية على المحبة والسلام والثبات على الموقف هي أمضى سلاح في وجه الجاهلية بكل تلاوينها.
لما تلقى صلى الله عليه وسلم أمر ربه بالهجرة، قام ليقطف ما كان يزرع في العقول والقلوب غضا طريا من الحب والوفاء والأفكار البناءة، ليجني ما كان يزرع بين الناس من معاني العدل والرفق والتبشير.
– أخبر أهله بأمر ربه، فكان منهم التسليم إلى القضاء والاستعداد للتأييد.
– زف البشرى إلى أبي بكر رضي الله عنه، فبكى من شدة الفرح وطلب الصحبة.
– استخلف عليا كرم الله وجهه، فوجد فيه الخليفة الراشد والراعي اليقظ والحارس الأمين.
– دعا الناس إلى الهجرة، فتركوا كل ما يملكون فداء لدعوة رسول كريم واستجابة لرب العالمين، فكانت منهم أم سلمة الصابرة المحتسبة، وكان منهم صهيب الذي اشترى هجرته بماله كله فربح البيع واستحق الثناء.
– عين مصعب بن عمير رضي الله عنه سفيرا، فجاءته الأنباء السارة أن في طيبة أنصار ينتظرون قدومه على أحر من الجمر.
كان التأييد الرباني باديا على حركته صلى الله عليه وسلم: خرج على من يطلبونه فهم لا يبصرون، وكلم سراقة بن مالك كلمتين: “كيف بك يا سراقة إذا سورت بسوار كسرى”، فإذا بسراقة يتحول من لص قاطع طريق إلى مساعد على إخفاء أمر الهجرة، ويمسح بيده الشريفة ضرع شاة أرهقها الهزال في بيت أم معبد فيتفجر الضرع لبنا سائغا يسقي العطاش.
ورغم التأييد بالوحي، لم يزهد عليه السلام في صحبة صالحة ورفقة طيبة يهيؤها لقابل الأيام بعد لقاء ربه، رفيق وصاحب لا يسمع النداء إلا لبى بقولته الخالدة: (لبيك، بأبي أنت وأمي يا رسول الله).
ما أحوج هذه الأمة إلى قيادة مؤمنة مؤيدة أخذت حظها الوافر من التأسي بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ونالت حقها الكامل من الاقتداء بالصحابة العظام رضي الله عنهم أجمعين.
أمل الأمة شبابها
ما فتئ صلى الله عليه وسلم يذكر بفضل الشباب في بناء الأمة، وقد أثنى عليه في غير ما موضع، حيث كانت أقواله في الشباب كلها تحريض على الحياة الطيبة والبذل في سبيل الله والمستضعفين، فهو القائل صلى الله عليه وسلم: “نصرني الشباب وخذلني الشيوخ”.
وهذه واحدة من تفاني الشباب في خدمة الهجرة النبوية، نموذج سيدنا علي كرم الله وجهه، فقد ولاه صلى الله عليه وسلم على أهله، وأمره أن يقوم مقامه في أجل الأمور وأعظمها، في لحظة تاريخية بامتياز، لحظة قلبت تاريخ البشرية من جور الأديان إلى عدل الإسلام.
تروي كتب السيرة أن عليا نال شرف النوم في فراشه صلى الله عليه وسلم حتى تحسب قريش أن الأمور على حالها، فعرض بذلك حياته للخطر فداء لرسول كريم ودعوة خالدة في مشهد يفوح خدمة وفداء.
لم تسجل لعلي يوم الهجرة هذه فحسب، بل تشرف بتولي مهمة رد الأمانات إلى أهلها، امتثالا لأمر الله بذلك، فلن تقوى قريش بعد اليوم وقبله أن تقول أن محمدا يخون الأمانة.
ورب فقيه في هذا الزمان يبيح لنفسه أكل أموال الناس بالباطل، أو بتبريرات فقهية وغير فقهية لا سند لها، كأن يشرع الاستيلاء على أموال الناس بذريعة أنهم كفار، أو لأنه سيستعمل أموال الكفار في وجوهها الحقة.
وبعد أداء المهام وإتمامها على أحسن وجه، يشد كرم الله وجهه الرحال إلى المدينة فيدخلها بعد سفر شاق و طويل.
ويا لروعة المشهد حيث يدعوه صلى الله عليه وسلم ليستقبله، فيخبره القوم أنه لا يستطيع القيام لأن الأقدام قد تفطرت من شدة المشي، ويأتيه صلى الله عليه وسلم وهو المشفق على كل أمته، فيدلك القدمين بيده الشريفة فكأنما هي البلسم والشفاء في الحين.
لم يَقِلَّ بذل شاب آخر عن بذله كرم الله وجهه، إنه عبد الله بن أبي بكر، بذل الجهد كله في الولاية على أهله، وساعد في إخفاء الرفيقين في الغار وإطعامهما وتوصيل أخبار القوم إليهما ومتابعتهما.
هكذا همم الشباب تكون حتى يقوى على حمل أعباء البناء والتضحية من أجل الأمة. إن هذه الهمم والتضحيات لم تكن لتصير كذلك لولا أن الوحي أطرها، ورعاها الرسول الكريم رعاية كاملة، وعاشت في كنف أسرة طاهرة مبنية على المودة والرحمة، وتعلمت أسرار الوحي في حلق العلم، تزاحم الأكابر بالركب، وتنافس العظام من الصحابة على قيادة صفوف المسلمين والدفع عنهم.
رحم الله عبد الحميد بن باديس، كان ينظر العزة والتحرير للجزائر في إرادات الشباب فيناديه:
يَانَشءُ أَنْـتَ رَجَــاؤُنَــا
وَبِـكَ الصَّبـاحُ قَـدِ اقْـتَربْ
خُـذْ لِلحَـيـاةِ سِلاَحَـهـا
وَخُـضِ الخْـطُـوبَ وَلاَ تَهبْ
وَاْرفعْ مَـنـارَ الْـعَـدْلِ وَالإ
حْـسـانِ وَاصْـدُمْ مَـن غَصَبْ
وَاقلَعْ جُـذورَ الخَـــائـنينَ
فَـمـنْـهُـم كُلُّ الْـعَـطَـبْ
وَأَذِقْ نفُوسَ الظَّــالـمِـينَ
السُم يُـمْـزَج بالـرَّهـبْ
وَاهْـزُزْ نـفـوسَ الجَـامِدينَ
فَرُبَّـمَـا حَـيّ الْـخَـشَـبْ
وللمرأة في بناء الأمة باع طويل
قد تستوقفنا نماذج نسائية عدة على مر تاريخ الأمة، لكن يبقى تاريخ أسماء بنت أبي بكر ساطعا وسط هذا التاريخ الحافل، لقد كانت نموذجا في كل شيء، توجت وتفردت أما وزوجا وابنة وأختا ومبايعة ومجاهدة وناصحة.
خدمت الهجرة وفدتها بكل ما تملك حتى لقبت بذات النطاقين، ولم يسبقها إلى الإسلام إلا سبعة عشر من المسلمين.
بلغها أن الحجاج وقومه يعيرون ولدها عبد الله بن الزبير بأمه ذات النطاقين، فخرجت لتعتز أنها إنما شقت نطاقها لتجعل شطره لسفرته صلى الله عليه وسلم، والآخر عصاما لقربته ليلة خروجه إلى الغار صحبة أبي بكر.
يصفها زوجها الزبير – وقد كان معروفا بشدته – في حالها مع الكرم فيقول: ما رأيت امرأة قط أجود من عائشة وأسماء، وجودهما مختلف، أما عائشة فكانت تجمع الشيء حتى إذا اجتمع عندها قسمته، وأما أسماء فكانت لا تمسك شيئا لغد.
وفي واحدة من إحدى بطولاتها أيام الهجرة أن قريشا لما سمعت نبأ خروج أبي بكر، جاؤوا إلى بيته يستقرؤون الوضع ويطلبون أبا بكر فلم يجدوه، ولما خرجت أسماء، إذ بأبي جهل – أبو الخبث والفاحشة – يظهر غيظه وحنقه فيها، فيلطمها على وجهها ويضربها على خذها حتى أسقط قرطها من أذنها، فما زادها ذلك إلا إصرارا على نصرة دين الله.
لما سمع جدها أبو قحافة خبر خروج ابنه، ذهب إلى بيت أبي بكر يتفقد أمر أحفاده، فقال لهم إني أراه قد فجعكم بماله مع نفسه، فقالت أسماء: كلا يا أبت، لقد ترك لنا خيرا كثيرا. وأخذت أحجارا فوضعتها في كوة في البيت في المكان الذي كان يضع فيه أبو بكر ماله ووضعت عليها ثوبا، ووضعت يد جدها على الحجر توهمه أنه المال الذي ترك أبا بكر، فلما تحسس ذلك أبو قحافة قال: إن كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم.
لم تكتف أسماء بتجهيز الهجرة، بل أتمت صنيعها بتسكين روع أبي قحافة وطمأنته على أهل بيته.
ولم تكن أسماء رجلة في هذا المقام الذي تتمتع فيه بالشباب فحسب، بل بقيت على ذلك طول حياتها. دخل عليها ابنها عبد الله بن الزبير يستشيرها بعدما خذله الجميع بما فيهم أهل بيته، وهي في سن تقارب المائة أو تزيد، فأجابته بكل الفخر والاعتزاز والأنفة وعنفوان الكرامة: لا يلعبن بك صبيان بني أمية، عش كريما ومت كريما، والله إني لأرجو أن يكون عزائي فيك حسنا.
فكيف سيكون حال ولد هذه أمه، وكيف ستكون إرادة رجل هذه زوجته، وكيف ستكون عزة أب هذه ابنته، بل كيف ستكون أمة هذه إحدى رائدات تاريخها.
حكيمة كانت رضي الله عنها، ويقظة في كل أحوالها، ومتوكلة على ربها لا تخشى في الله لومة لائم. يحكى أن الحجاج أراد استفزازها في آخر عمرها بعدما نال من فلذة كبدها فقتله وعلقه على غصن شجرة، قال لها الحجاج: كيف رأيتني صنعت بابنك؟ فردت عليه بنت الصديق في طمأنينة وسكينة: أفسدت عليه دنياه، فأفسد عليك آخرتك.
لا ريادة لهذه الأمة إلا بما اعتزت به على مر تاريخها الحافل: قيادة يختارها المسلمون على الطواعية والرضا، محبوبة خادمة ومؤيدة. وشباب صالح تلقى الرعاية الكافية في كنف الإسلام لا في غيره. وامرأة لم تقاسم النساء إلا الأنوثة والفطرة السليمة، أما خصالها، فأنى لأشباه الرجال أن يتمثلوا.
ولقد صدق الرافعي إذ يقول:
ولا خيرَ فيمنْ إن أحبَّ دياره
أقام ليبكي فوقَ ربعٍ مهدم
وقد طويتْ تلك الليالي بأهلها
فمن جهلَ الأيامَ فليتعلم
وما يرفع الأوطانَ إلا رجالها
وهل يترقى الناسُ إلا بسلم
ومن يكُ ذا فضلٍ فيبخل بفضلهِ
على قومهِ يستغنَ عنه ويذمم