1- إضاءة لغوية وتنويه
إن من معاني الجندية التأهُّب والاستعداد، وتجنّد للأمر: تطوّع وانتدب نفسَهُ له، والأجناد: الأنصار والأعوان، ومنه أيضا: النصرة والإعانة. وتحمل الجندية معنى الانتظام والخضوع لمعايير التجنيد في أي مجال، والجَنَدُ الأرض الغليظة، وقيل هي حجارة تشبه الطين، والجُنادِيُّ نمطٌ من الثياب التي تستر الجدران.
ويؤخذ من هذه المعاني: أنّ الجُنديةَ تعني النصرة، وانتداب النفس للعون، والتأهب، والتّحَفُّزُ، والاستعداد، والانتظام، والاخشيشان، واليقظة والنباهة، والسُّترة، كما تحمل معنى الفتوّة والاستعداد للخدمة والبذل.
إننا إذ نبحث عن العمق النبوي والدلالة الدعوية لمفهوم الجندية، نكون ضمنا، خارج الدلالة السطحية المباشرة للمصطلح، والتي صارت تطغى عليها الأبعاد العسكرية، وهي التي تكون أسبق إلى الأذهان الفارغة المسكونة بالعنف، والمهووسة بالتسلُّط والقهر والإجبار والإكراه. فالبعد العسكري للمصطلح، لا يحضر في المنهاج النبوي إلّا عند الحديث عن الدولة المسلمة التي تؤهل قدراتها لتنافح عن أرضها وسيادتها وتسهم إلى جانب باقي الأمم في تثبيت السلم وإقرار العدل والحرية في العالم. فالخطّ اللاحب لجماعة الدعوة هو المنهاج النبوي في الرفق والمحبة والحجة والحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وتجسيد كل ذلك في بناء النموذج الفردي الناجح، المتجنّد لخدمة الإسلام والمسلمين، وسائر خلق الله أجمعين، الرحيم بالناس، الرفيق بهم، الحريص عليهم، الشاهد بالقسط بينهم، الرائد الحامل للكَلِّ، الباسط للجناح، المعين على نوائب الدّهر.
2- الجندية غاية التربية ونتيجتُها
إن التجنُّدَ لله تعالى هو إلزام النفس بالتأهّب لابتدار الأمر والنهي، وعقد العزم على دوام الجهاد وبذل الوسع، والصبر والاصطبار، في الصف وبنظام الصف، فمعناه إذا تطوُّعُ المؤمن والمؤمنة لخدمة دعوة الله تعالى، وتبليغها وبناء نموذجها المشرق في الميدان، والذّود عنها والوفاء لها، وابتغاء الارتقاء بها وفيها إلى مراتب الإحسان عملا وعلما وبذلا وعدلا، فالجندية بهذا المعنى هي غاية التربية في المنهاج النبوي، وهي النتيجة المرجوة من السلوك الجهادي الجماعي على منهاج النبوة والصحبة في الجماعة. فهي حصيلة اتّصاف، وخلاصة تربية وبناء، ونتيجة تعبئة وتحفيز. يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “الهَدَفُ من تجنيد العامة وتعبئة المستضعفين إيقاظُ القلب إلى معاني الإيمان، ورفعُ الهمم إلى نُشدان الكرامة الآدمية وكمال الإنسان، ثم إيقاظُ الفِكر من سُبات الزمان، وبَثُّ الوعي السياسيِّ لِيَهْتَمَّ المستضعفون بما يَجري في الحَدَثَانِ. الهدفُ تحريك الساكن فينا، الخاملِ من أحوالنا. إنَّ حديدنا باردٌ، يحتاج مَنْ يُحْميه على نار الحَمَاس، ثم يصُبُّهُ في بُوتَقَة الجندية، ليصوغ منه النِّصالَ النَّفَّاذة، ويطرُقَهُ بمطارِق التربية، لتستوي زُبَرُهُ على ما نُرِيدُ من استقامةٍ لله، وصمودٍ للجهاد” 1.
3- الجندية انغراس في زمن الذكر
إنه لا معنى للجندية، بدون رسوخ في زمن الذكر، وتربية الذكر، والدوام على الذكر، حتى تبرز ثمرة الذكر وتنضج وتؤتي نورها وبركتها وخصالها وإشعاعها بفضل الله تعالى، يقول الإمام رحمه الله تعالى: “في حضن الصحبة الصالحة يبدأ توجه المسلم إلى ربه عز وجل. فتجمع خصلة الذكر أنواع العبادات المشروعة التي توقظ روحانية العبد، ويَعُمُّ عبيرُها الجَوَّ الذي يتنفَّسُهُ جُنْدُ اللهِ ليصلحَ المَحَلُّ، وهو القلب والعقل، للتخلق بأخلاق الجندية، وللسلوك سلوكا جهاديا” 2.
4- الجندية مُجافاةٌ لعادات التَّرَف
ليس من يقظة الجندية ولوازم التأهب أن يستمرّ التعلّق المتلهّف بالدنيا، والرغبة العارمة للتوسُّع فيها، فالجندية تقلُّلٌ يُناقض الشراهةَ والتّهافت، ويعارض مجمل عادات التَّرَف والاسترخاء والبذخ، إذ هي تجرّدٌ وارتقاء من حضيض المادّة واللُّصُوقِ بها، وتحرُّرٌ من إسار ما يتنافس فيه عامّة الناس من تكاثر يُلهي، أو جاهٍ يُطغي ويُزري، أو شهوةٍ تشُدُّ إلى الأرض فتُعيقُ وتثني، وفي هذا يقول الإمام رحمه الله تعالى: “صبْرُ عامة المسلمين في جهاد البناء أن يتجردوا ويبذلوا ويصبروا على القلّة الضرورية للبناء، وينبذوا بيد واحدة عادات الترف والاسترخاء، ويستبدلوا جميعا أثاث البذخ بخيمة الجهاد كما يفعل القائد المجاهد، ويستبدلون طعام الدَّعَةِ بطعام الاخشيشان، ويتقمصوا جميعا معاني الجندية في كل يوم وفي كل لحظة طاعة وتطوعا” 3.
5- الجندية صبر ومقاومة لليأس
إن مفهوم الجندية يفيد التحمّل والصّبر، وهو بذلك يشكل نوعا من العناد الإيجابي، الذي يُضادّ الاستسلام للواقع، أو الانهزام بسبب خيبة بعض العثرات أو التضعضع لمجرد بضع كَبَوَات، إن الجندية ليست جاهزية مثالية حالمة، وإنما هي مقاومة في الميدان، وصمود أمام كل عوامل اليأس ومكابرة أمام العياء والفشل الجزئي المؤقت، إن الجندية حفاظ على شعلة الأمل متقدة، وحرص على تعلم اليقين وتجديده وتعميقه، جاء في المنهاج النبوي: “العقبة المراد اقتحامها في حق الفرد والجماعة تتكون من واقع مَرِج، متحرّكٍ، مُعَادٍ لإرادة السالك، مليء بالأشواك والأعداء. فإن لم يكن الفرد تربى على الجندية العنيدة، إن لم يكن مقاتلا يستهين بالموت فما دونها، وإن لم تكن الجماعة من التنظيم وصواب الرؤية وصلاح القيادة فلن يكون جهاد، بل تصالح مع الواقع في مرحلة من المراحل، في منعطف تاريخي ما، عند كبوة أخلاقية، أو عثرة تكتيكية، أو سوء تقدير أعقبه سوء تدبير” 4.
6- الجندية كينونة مع الصادقين
ليست الجندية صفات محلقة في سماء الأحلام والأماني، ولكنها تخلُّقٌ واتّصافٌ، وتشرُّبٌ لمعاني الخدمة واليقظة والاستعداد والتّحفّز الدائم، وتدرُّب على المبادرة، وخروج من دائرة العجز والكسل، إنها في كلمة واحدة حصيلة تربية ونتاج مجاهدة واجتهاد، فهي تحصيل وتجميع وارتقاء، وليس التمكُّن من مقامها فتح ناجز ضربة لازب، وإنما المُعوّل على التربية الإيمانية الجهادية، ومفتاح هذه التربية هو الكينونة مع الصادقين، أي لزوم جماعة المؤمنين، والصبر معهم والتحزّب لله تعالى بصفة عامة، يقول الإمام رحمه الله تعالى في هذا الصدد: “فالكينونة مع الصادقين، الكينونة مع الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة، التحزب بصدق وفدائية مع حزب الله، هي اقتحام العقبة، هي الامتحان الدائم على صدق الجندية للّه تعالى، هي تتويج التربية وثمرة الإيمان. كيان متماسك، حي من داخله بعلاقات المرحمة، قوي على صد العدوان الخارجي بِعُدّة الصبر” 5.
7- الجُندية فدائيةٌ باذِلَة
ومعنى ذلك، أنه من تمام صدقنا وكمال يقيننا، وبرهان محبّتنا، أن نكون مستعدين لفداء الدعوة ورموزها بأموالنا وأوقاتنا وبأرواحنا إن تطلّب الأمر ذلك، والفداء ترجمة لكمال الإيمان وتمام اليقين، وذروة الاستعداد للبذل، وبرهان للصدق، فهي ارتقاء لمقام السّخاء الذي يسترخص المرء فيه كل شيء في سبيل الله تعالى وفي سبيل دعوته، ولم يفلح من أفلح إلا بعد أن اتّقى شح النفس وأنانيتها، وهذا أبو طلحة رضي الله عنه، الصحابي الجليل، يضرب لنا أروع مثال في الفدائية واسترخاص النفس في سبيل الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم: “في غزوة أُحد كان سيدنا أبو طلحة رضي الله عنه يترس بجسمه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعرض ظهره لسهام العدو مخافة أن تصيب الرمز المحبوب المُفَدَّى. ولئن كان الصحابة قالوا عن ذلك اليوم مُخَلِّدِينَ الحَدَثَ: “اليومُ كلُّهُ لأبي طلحة!” فإنّ أبا طلحة لم يكن الوحيدُ في فدائيته. هذا سعد بن الربيع يخاطب المسلمين وهو يلفظ أنفاسه الزكية في المعركة: “لا عذر لكم عند اللّه إن خُلِصَ إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف!” 6.
8- الجندية تحمّل للمسؤولية وارتقاء بالنية والأداء
إن من أبرز معاني الجندية كذلك، الاستعداد لتحمّل المسؤولية وحمل أعباء الدعوة، وانتداب النفس، أو قبول انتدابها من طرف المؤمنين، قياما بما يسندُ من مهمّات، وإشرافا على ما يُعطى من مسؤوليات، إشرافٌ وعملٌ وسعيٌ خالص لوجه الله، لا مِنَّةَ فيه ولا استعلاء ولا شعور بفضلٍ أو ميزة. وإن من أبرز براهين الجُندية هو أن يتحمّل المؤمن والمؤمنة ما يُعطاهما من مهمات ومسؤوليات، وما يُسنَدُ إليهما من تكليفات، خاصة في أوقات الشدّة والحاجة وقلّة الحاملين والحاملات.
إن الجنديةَ تعبئةٌ شاملة وتحفُّزٌ وتَأَهُّبٌ رُوحِيٌّ وعقليٌّ ووجدانيٌّ وبَدَنِيٌّ متكاملٌ يُعطي الحيويةَ ويرفع البواعثَ ويشحذ الاستعدادَ ويرفع الإرادات لتعطي أفضل نتيجة ممكنة، دعوةً وحركةً وتدبيراً، وترفعُ استعدادَ الفرد إلى مستوى المجاهد بحق، الذي يبذُلُ أقصى ما عنده تسابقا على فضل الله تعالى ومقاماتِ رضاهُ وقُرْبِهِ.
ومن خصائص الجندية، أن يكون المؤمن مبادرا فَطِنا، لا متواكلا منتظرا، منتِجا لا مجرّد مستهلك، حاملا لا مجرّد محمول. ومن عناوين ذلك: العملُ اليوميُّ الصابر القاصد، بالعمل في الميدان لا بمجرّد لقلقة اللسان، ولئن كان أدب الطعام فيه “مما يليك” فالدعوة أيضا فيها مما يليك، من حَيِّكَ وشُعبتك، من عائلتك وجيرانك، مّما أنت مُكلَّفٌ به ومسؤول عنه، وفيما تصل إليه قدراتُك ومواهبُك، وفيما يفتحُهُ الله تعالى لك من فرص وأوقات وإمكانيات وقلوب. فكُلٌّ يتجنَّدُ لخدمة الدعوة بما وهبه المولى الكريم من نِعمٍ، فالأساس هو أن نقف جميعا بباب الله تعالى خُدّاما لدعوته، راجين فضله، متأهبين للجهاد في سبيله، والجهاد معناه بذلُ أقصى الجُهد في سبيل الله. جعلنا الله من المجنّدين لخدمة دعوته وأمة رسوله صلى الله عليه وسلم، ورفعنا المولى الكريم لنكون من المجنّدين للوقوف ببابه خداما لسائر خلقه. آمين.