مقدمة
لقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم مبشرا وميسرا، لإيقاظ الهمم والتنشيط للطاعة لا التعنيف بالفظاظة والغلظة. فالمؤمن محتاج في حال البلاء والشدائد والاضطرابات إلى من يكشف همه، ويبشره بما يسره. فالبشارة هي أعظم وأرفع منازل الدعوة إلى الله، فرب العباد يعلمنا ويربينا أن نجعل خطاب التيسير والاستبشار سابقا في دعوتنا.
فالشارع حذر من تنفير الناس بسبب جهلهم بالدين أو بعدهم عنه، فلابد أن نحبب لهم الدين، وننشر البشر والسرور في الخلق.
وقفة مع الحديث الشريف
في صحيح مسلم عن أبي موسى قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره، قال: “بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا”.
عرف الجرجاني البشارة بقوله: “كل خبر صدق، تتغير به بشرة الوجه، ويستعمل في الخير والشر وفي الخير أغلب” 1.
القول اللين والوجه الباش
لقد بشر الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته في بداية الدعوة حين تعرضوا لأقصى المحن والشدائد، ومن شواهد ذلك ما رواه الحاكم في مستدركه، أن النبي صلى الله مر على آل ياسر وهم يعذبون في مكة، فقال مثبتا ومصبرا: “أبشروا آل عمار وآل ياسر، فإن موعدكم الجنة” 2.
ونجد كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوصي أصحابه قبيل إرسالهما إلى اليمن فيقول لهم: “يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا” 3.
فالبشرى هدية وجائزة تحبها النفوس وتترقبها، فهي إن جاءت أمرت النفس بالفرح والتفاؤل. ولا بد أن نرفع راية البشارة في أجواء القلق والاضطرابات، ففي أجواء القلق والخوف والفزع يحتاج الناس إلى طرح موضوع البشارات. فالبشارة لها مفعول في القلوب، فمع القرب من مواسم الخير تتحرك النفوس إلى التوبة، وهنا تأتي البشارة بالجنان، وبأنهارها الصافية، وثمارها الكثيرة، ورزقها الوفير، وأن الله يغفر الذنوب ويرحم عباده.
فأولى الناس بالبشارة هم المجاهدون الأبطال من أهل غزة وفلسطين، الذين نزحوا من بيوتهم، فنبشرهم بنصرهم القريب، نتلو على مسامعهم قوله تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر، 51].
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: “البشارة والنذارة: الترغيب والترهيب. تعاون بين الدعوة وهي بشارة، ووجه باش، ودعوة إلى الخير، وأمر بالمعروف، وبين الدولة ولها الحق وعليها الواجب أن تقبض على المنكر من عنقه إن هو لم ينته بوازع القرآن” 4.
إن هذا الدستور الدعوي الذي ننوه به اليوم في الدعوة والالتزام بالشرع يجب ألا يحيد عن خط التبشير، وهو خط كتبت فيه الأقلام الكبيرة، أن تجعل طريقك كلها بشارة، فالمؤمن إذا استبشر حصل له الخير الكثير، وإن تشاءم فإنه يتحسر وتضيق نفسه.
“البشر والاستبشار والكلمة الطيبة. الكلام الواضح الهادئ الوقور. الإقبال على السائل وحسن الاستماع. الانبساط للناس. التبشير لا التنفير” 5..
لا تنفروا
لقد عرف التنفير في المعاجم بعدة تعريفات نذكر ما جاء في تعريف ابن فارس: “التنفير هو معاملة الناس بالغلظة، والشدة، ونحو ذلك، مما يحملهم على النفور من الإسلام والدين، ويؤدي إلى التجافي، والتباعد” 6.
فالشريعة الإسلامية كما أمرت بالتبشير نهت عن التنفير، وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هناك من الناس منفرين: “عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رجل يا رسول الله، لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضبا من يومئذ، فقال: أيها الناس، إنكم منفرون، فمن صلى بالناس فليخفف، فإن فيهم المريض، والضعيف، وذا الحاجة” 7.
ولقد حض الإسلام على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة. قال الله تعالى: ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125]. ففي تعاملنا مع الناس يجب أن نبتعد عن كل أشكال الغلظة والشدة والفظاظة، وبالمقابل نتعامل بحب ورحمة وشفقة. فمن أسباب تنفير الناس إبعادهم عن الحقيقة أثناء التبليغ والتربية والتعليم من غلظة الأسلوب وفظاظته.
ومن الشواهد على ذلك ما حكي عن سيدنا أنس الذي تربى على يد النبي صلى الله عليه وسلم وخدمه عشر سنوات عن حساسيته صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر على النحو الآتي: ” خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، لا والله ما سبني سبة قط، ولا قال لي أف قط، ولا قال لشيء فعلته لمَ فعلته، ولا لشيء لم أفعله ألا فعلته..” 8.
ويذكرنا سيدنا أنس رضي الله عنه أنه عندما طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوصيه أخبره صلى الله عليه وسلم أن يبتعد عن جميع خصال الغلظة والعنف، ممتثلا بذلك هديه صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن: فيقول أنس رضي الله عنه: “لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سبابا، ولا فحاشا، ولا لعانا، كان يقول لأحدنا عند المعتبة: ما له ترب جبينه” 9.
يقول علي بن راشد المحري المهندي: “فرسالتي إليك، لا تحزن، وتفاءل، واحمد الله، ولا تسخط على أقداره فلا تعلم من أين يأتيك الخير، انتظر الخير واليسر من ربك عز وجل ولا تدع اليأس يتسلل إلى قلبك، وكن حسن الظن بربك عز وجل، وانتظر منه التيسير والفرج وكل خير ترجوه وتأمل” 10.
علينا أن نقتفي أثر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ نشيع البشارة، وننشر التفاؤل، نحيي الأمل في النفوس، نتوخى الأصلح، وما يقرب الناس إلى محبة الله، والعمل الصالح. نكون مشجعين، مبشرين، ميسرين، محببين، متعاملين برفق ولين. نبتعد عن الفظاظة والغلظة والقسوة والإكراه. فإذا التزمنا بهذه السلوكات سنكون نبراسا نضيء الطريق.
أفبعد هذه الإشارات يكون المؤمن مصدر شؤم وحزن وتنفير وإحباط، أم محط تفاؤل وإحياء النفوس بالبشارة والخير؟
[2] الحاكم، المستدرك على الصحيحين، دار المنهاج.
[3] رواه البخاري في صحيحه.
[4] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص 478.
[5] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص 299.
[6] ابن فارس، مقاييس اللغة، 5-368.
[7] أبو مسعود عقبة بن عمرو، صحيح الجامع – رقم الحديث أو الصفحة: 7868.
[8] أخرجه البخاري، رقم الحديث6911، صحيح الأدب المفرد، رقم 277.
[9] صحيح البخاري، رقم الحديث 6031.
[10] علي بن راشد المحري المهندي، مجلة الشرق.