يؤمن الأستاذ ياسين بأن العلوم قد جاء عليها حين من الدهر انقسمت وتشظت إما بسبب داخلي دافع كالاختصاص أو بسبب عوامل خارجية كالسياسة والأغراض، لكن هذا التفتت من شأنه أن يبعد هذه العلوم أن تكون مناظير صادقة لنَقْل المعنى والحقيقة ما لم تتظافر وتتوحد من جديد لخدمة ما فيه صلاح الإنسان وترقية إدراكه، وإلا فهي موقعة في اختزالية الحقيقة وتبسيطيتها وانقطاعها عن أصلها الغيبي، وقد سبق لإدغار موران أن تحدث طويلا عن مفهوم الإنسان الذي تفكك إلى علوم وتخصصات منفصلة لم يعد بينها تواصل بسبب الطابع التجزيئي للعلم[1].
وليست هذه الدعوة موجهة للعلوم الكونية وحدها لئلا يصيبها القصور، ولكن الرؤية المطلوبة لا يقدمها إلا اجتماع العلوم الكونية بالعلم بالله والعلم بالغيب الذي يعطيها معنى وتوجها.
فالعلوم الكونية تسحب على مجال بحثها مقدمة الشك المبدئي الذي هو عماد العلوم التجريبية. لا تعترف العلوم المضبوطة بعلمية شيء إلا إن ثبت بالتكرار إمكان عودة نفس الظواهر بعودة نفس الشروط. ولا تعترف بعلمية ما لا يقع عليه الحس بواسطة الملاحظة المباشرة أو الآلة، أو بواسطة المنطق العقلي الرياضي الذي يلحق بالفرضيات التقديرية الملاحظات العينية فتتأكد علمية الظواهر أو تبطل)[2]. وهي رؤية وضعية تقليدية لا يسعف التطور الذي عرفته فلسفة العلوم في دعمه إلى النهاية مع ما بات يعرف بامتداد الوجود وتداخل المرئي واللامرئي وغيرها من المفاهيم[3].
مهمة الجمع هذه بين العلوم الكونية والعلم الحق أو الروح أو الإيمان لا يملك أي كان من القيام بها، فهي ليست مهمة تقنية محايدة، بل تحتاج إلى مسيرة طويلة في بناء الشخصية الإسلامية)، تحتاج لبناء العقل المسلم وإعادة تشكيله، العقل الذي لا ينفك عنده هم الدنيا عن هم الآخرة، يطرح الأستاذ ياسين سؤالا جدليا، يقول: كيف ندخل للإسلام علوم الرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، والتكنولوجيا، والتاريخ؟ كيف وكل هذه العلوم طُوِّرَتْ في حظيرةٍ لا تدين لله بدين، ولا ترجو له حسابا؟ ثم كيف نربطها بالقرآن ونفرعها عنه وقد شبَّت وشاخت في أحضان قوم لا يومنون بالقرآن، ولا برسالة القرآن، فهي في ذاتها الأصلُ في تقدير الفكر المادي العريق في معرفة الوسائل المبعدِ عن معرفة الغاية؟)يصعُب ربطُ العلوم الكونية بعلم الحق على مَن له فكرٌ وقلبُه مطموسٌ مطبوعٌ عليه من الكافرين، وعلى مَن إسلامُه الفرديُّ في واد، وهمومُه وفكرُه وأهدافُه في واد. إنما يتم ربطُ الوسائل بالغاية، ربطُ علوم الكون بالقرآن، ربطُ استنباط العقل بالوحي المنْزل، على يد، وفي كيان الشخصية المومنة التي انجمع لها وفيها أشواقُ القلب ومحابُّه مع قدرات العقل واليد في محجة واحدة، على صراط الله المستقيم، دليلها المكتوب القرآن، وحجتها سنة النبي الهادي عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى التسليم)[4].
عملية الجمع بين العلوم تتم خارج دائرة العلم، بل قبل العلم، أي على مستوى العقيدة التي تسكن العقل وتحدد خريطته المعرفية ورؤيته للعالم، وعنها تصدر ما يسمى “الخلفية الإبستمولوجية” للعلوم.
[1] _ إدغار، موران. النهج، إنسانية البشرية، الهوية البشرية، ص70.
[2] – ياسين، عبد السلام. حوار مع الفضلاء الديمقراطيين،م.س، ص 147.
[3] _ Ramon Martinez, Du Regard A la Contemplation, Itinéraire de la vie dans l’esprit, Brech Théologique, 1953, p7.
[4] – ياسين، عبد السلام. إمامة الأمة،م.س، ص159.