تفسير كلام الله من أجل العلوم، فهو ترجمة لمراد الله وبيان لأحكامه وتشريعاته، لذلك خص له علماؤنا شروطا وأصولا تربوية وعلمية دقيقة دفعاً للتجرؤ على الوحي وحفظا للشريعة، لكن بقيت فسحة التدبر في كلام الله والغوص في مغزى الآيات ومقاصدها، واستخراج دلالاتها وهداياتها، والتفاعل معها مفتوحةً لكل قارئ صادق مجلّ كلام الباري سبحانه.
رحم الله الإمام عبد السلام ياسين، فقد كان رجلا قرآنيا، لزم كتاب الله في حله وترحاله، فكان جليسه وأنيسه وسميره، بل أساس نظرته المنهاجية التغييرية في الأنفس والآفاق، وما اهتباله باللغة العربية منذ نعومة أظفاره، وهو الأمازيغي المحتد العصامي الإرادة، إلا لكونها لغة القرآن ولغة الوحي، واللغة الوحيدة القادرة على حمل رسالة الله إلى الإنسان.
لا غرو أن الناظر الحصيف في مكتوبات الإمام لا يجد عناء في لحظ مدى اعتنائه بالمصطلحات القرآنية، انطلاقاً من جذورها اللغوية إفراداً وتركيباً، إلى إعادة تجديد بريقها الأصيل، ومن ثم قراءة معانيها المفقودة بنظرة شمولية تستحضر مستجدات العصر ومتطلبات الأمة للنهوض، بعيدا عن القراءات الحداثية المبتورة عن روح الوحيين، والمنفلتة عن كل ضوابط علم التفسير وأصوله المعتبرة.
اتّبع الإمام رحمه الله منهجاً وسطاً عند تدبره لكلام الله عز وجل، بدءً بالختمات الحالة المرتحلة عن ظهر قلب من أجل إحصاءٍ شامل ودقيق للمفردة القرآنية، حتى يتبين له مدى حضورها إفراداً وتركيبا، جذراً واشتقاقا، إلى رصد معانيها في المعاجم العربية ومعهود اللسان العربي زمن التنزيل، وأخيراً نخل الإرث التفسيري التليد مستحضراً زمان ومكان وبيئة المفسر، ومراعاة لظرفه الاجتماعي والتاريخي، مع الاحترام التام والترحم على فضل السابقين، ودونما تحامل على اجتهاداتهم ولا تبخيسا لجهودهم، فما كان رحمه الله يشغله المفسِّر عن التفسير.
لا شك أن بالمثال يتضح المقال، وإن كانت المواضيع أكثر من أن تحصيها مقالة بل يلزمها بحث محكم متفرد:
لفظة التبرج، والتي خصها الإمام بالبحث والتحليل في سياق تتبع كلمة الجاهلية في القرآن والسنة المطهرة وبقاياها بعد الإسلام، وذلك لما لها من “سمات فكرية سياسية اجتماعية يصفها القرآن الكريم ويردها إلى أربعة مظاهر: ظن الجاهلية، وحكم الجاهلية، وتبرج الجاهلية، وحمية الجاهلية. أربع خصائص ذكرت في القرآن الكريم تحيط بكليات الروح الجاهلي” 1.
وبعد رصد مدى حضورها في كل القرآن، مكيّه ومدنيه، ينتقل رحمه الله إلى أصحاب المعاجم القديمة ليتتبع مواد وجذور اللفظة، “قال أهل اللغة: تبرج المرأة إظهارها لمحاسنها، وخروجها من برجها وحصنها” 2، وبربطها بسياقاتها يحصل على أن ” كلمة “برج” كلمةٌ جهادية، والتبرج بالمفهوم الجذري تخلي المسلمة المؤمنة عن حظها من الجهاد”.
أما في عرف اللسان العربي قبيل الإسلام، يجد أن “تبرج الجاهلية” كان”خاصا بالطبقة المستأثرة بالزينة، والزينة البئيسة خاصة بالفتيات المسلوبات الحرية يُحصرن في دور الخنا تخفق عليهن رايات الإشهار الحمر في مكة”. لذلك جاءت الوصية الإلهية لنساء النبيء – صلى الله عليه وسلم – وبناتهن من نساء المسلمين “أن لا يظهرن بمظاهر الجاهلية، وأن ينبذن سَمْتها وثقافتها وعاداتها”، لكن في زمان الاستكبار العالمي “”فتبرج الجاهلية” اليهود اخترعوه، وتلمودهم خزانة لا تنفد، ولا تزال تُمد أساطيرها بفنون العُهر والحيوانية وقلة الحياء والتهتك والسخرية بالأخلاق” 3.
إلى أن يرتقي رحمه الله بالمصطلح إلى معناه الشمولي “تبرج الجاهلية مظهره إرضاء شهوات النفس بقتل الروح” 4، إلى أن يخلص إلى كلية مفادها أن “معالجة تبرج المرأة بمعناه الجسدي الفسقي بمعزل عن الاستشفاء الكلي للعلة الأساسية، وهي فساد العقيدة، إنما هو ستر للدُّمَّل والتظليل عليه لتنخر فيه العاهة” 5.
تدبرات الإمام القرآنية مكنونة في مكتوباته وأشرطته السمعية والبصرية، تنتظر من يرفع عنها اللثام، وللمثال لا الحصر مصطلحات “الجاهلية” و الشورى، و”القومة”… لكن سأختم بتدبرين بليغين، أولهما في آيات لا تقتلوا أبناءكم… 6 حيث يستنبط منها رحمه الله بقوله “ومن القتل بل من أقساه أن نترك عوامل التضليل والفساد تغتالهم من بين أيدينا” 7، وفي “قتل النفس بغير حق” قوله أسكنه الله فسيح جنانه “وفي قتل إنسانية الإنسان وإقناعه أنه مجرد حيوان متطور لا معنى لوجوده ولا لحياته إلا الرّتْع واللهو والعبث أشدَّ صور قتل النفس التي حرم الله فتكا بالإنسان ونفس الإنسان وحقوق الإنسان” 8.
إن التدبر لآي القرآن على ضوء واقع الأمة الحالي والمستقبلي باب مفتوح، ومائدته مبسوطة إلى يوم القيامة لكن بأصوله وشروطه، أدناها رفع العجمة اللسانية والقلبية والعقلية للمحب المقبل على كتاب ربه، مع النية الصادقة والإفادة من أهل السبق والصدق، ورحم الله الإمام المجدد، الرجل القرآني فكراً وخلقاً وجهاداً، فإن لم يكتب تفسيرا فقد أثل استنباطات تدبرية عميقة المعنى في بعدها التربوي وسياقها المنهاجي العام.
[2] عبد السلام ياسين، العدل الإسلاميون والحكم، دار لبنان للطباعة والنشر، 2018، ص 78
[3] عبد السلام ياسين، سنة الله، مطبعة الخليج العربي، تطوان، ط2، 1426هـ/2005م، ص120
[4] عبد السلام ياسين، الإحسان، دار لبنان للطباعة والنشر، ط2، 2018، ج2 ص128
[5] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ج1 ص 107
[6] في سورتي الأنعام والإسراء
[7] من وصية الإمام المجدد عبد السلام ياسين، موقع سراج
[8] نفسه